العشوائية القسرية: تصادم الحق في السكن وقوانين البناء

  • نُشرت في 25 أبريل 2018

يتناول المقال المشاكل التى تدفع بعدد كبير من الناس إلى البناء بالمخالفة للقانون، في سعيهم لتوفير المسكن

 

مقدمة

يرتبط الحق في السكن ارتباطًا وثيقًا بأمن حيازة المساكن، حيث يؤدي عدم وجود سند لحيازة السكان – أو الشاغلين – للمسكن إلى ارتفاع احتمالية فقدانهم له حال انهياره أو هدمه تحت دواعي التطوير، أو طردهم بواسطة المالك أو جهة الإدارة. ويعزز هذا الحق الحالة القانونية للمبنى محل السكن وتوصيل المرافق إليه واستخدام السكان هذه المرافق. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للشاغلين إدخال المرافق دون الحصول على ما يفيد موافقة الوحدة المحلية المختصة على رخصة البناء، بينما لا تعد رخصة البناء نفسها سندًا للملكية. في ظل سوق عقاري منفلت وتراجع القدرة الشرائية،[1] وتركز الأراضي الرسمية كاملة المرافق بالمدن الجديدة غير الملائمة،[2] تعد عملية البناء الذاتي على الأراضي الزراعية المقسمة، الرافد الرئيسي لحصول الغالبية العظمى من المواطنين في مصر على المسكن. يحظر القانون البناء على الأراضي الزراعية إلا في حالة دخولها داخل “كوردون” المباني، وهو النطاق المعتمد الخاص بكل مدينة أو قرية والذى تعتبر الأراضي الواقعة داخله أراضي مخصصة للبناء. أما فى حالة البناء على الأراضي الزراعية، فإن المباني المقامة معرضة للإزالة بحكم القانون، أو تظل “مخالفة” أو “غير رسمية” ما يجعل سكانها مفتقدين أمنَ الحيازة. وتتضح أهمية مناقشة مبدأ أمن الحيازة والعوامل المؤدية إلى غيابه وعلاقته بمدى إمكانية تطبيق قوانين البناء حين نجد أن 70% من الأسر المصرية مفتقدة له،[3] ما يلقي بظلال عميقة على مستقبل الأسر المصرية وممارساتهم الاجتماعية.

 

ما في حكم قانون البناء

تعد قوانين البناء في الدول المختلفة أداة لتنظيم تعامل المجتمعات مع العمران من حيث التخطيط والإنشاء والصيانة والاستخدام. وتضع هذه القوانين قواعد عامة وتفصيلية من أجل تحديد العديد من العناصر المتعلقة بالعمران مثل النسب البنائية والارتفاعات وغيرها من المحدِّدات المعمارية والعمرانية المرتبطة بعملية البناء. وتقوم هذه القواعد بتصنيف أنشطة البناء كأنشطة رسمية، أو غير رسمية، عشوائية، أو مخالفة، بغض النظر عن الكفاءة الفنية لعملية البناء ذاتها. وقد مرت هذه القواعد بأطوار مختلفة من التغييرات تبعًا لتطور القوانين ذاتها ما بين أحكام مصلحة التنظيم الصادرة عام 1889 والتي تم تطبيقها على عدة مدن فقط، مرورًا بعدة قوانين وحتى الوصول إلى قانون البناء الموحد الحالى رقم 119 لعام 2008 والذي تم تطبيقه على جميع المجتمعات العمرانية في مصر، سواء في الحضر أو الريف.[4] وتنقسم تلك القواعد إلى قواعد عامة تعمل كنوع من الإطار الخارج، والحدود القصوى والدنيا، الصارمة، التي تعتبر مخالفتها خرقًا صريحًا للقانون… إلا فى حالات استثنائية معينة.

مثال على ذلك الحد الأقصى لارتفاع المبنى هو 36 مترًا، أو ما يساوي مرة ونصفًا عرض الشارع، أيهما أقل (المادة 15). ولكن أجاز القانون استثناء المبنى من قيد الارتفاع بناءً على تصريحٍ من رئيس مجلس الوزراء بعد دراسة الموقع، وهو ما يشهده كورنيش القاهرة من أبراج فندقية وإدارية وسكنية فارهة. مثال آخر على الحدود الدنيا على المستوى المعماري هو الحدود الدنيا لمساحات الغرف والفراغات المعمارية الأخرى، مثل المناور. على صعيد آخر توجد قواعد بنائية خاصة تُصدر بناءً على مخطط معتمد للوحدة الإدارية محل البناء، كالمدينة أو الحي أو القرية. وتشمل هذه القواعد تداخل بين العناصر المعمارية والعمرانية التى تؤثر على عملية البناء، كالعلاقة بين عرض الشارع والنسبة البنائية والحدود القصوى للارتفاعات (مادة 16).

تبدأ المشاكل حين تتعارض القواعد العامة مع الخاصة. وينشأ هذا التقاطع حين تتعارض النسب البنائية مع الحدود القصوى للارتفاع، والذى يمثل عدد أدوار المبنى أخذًا فى الاعتبار أن ارتفاع الدور الواحد والذي تُبنى عليه الحسابات في القانون هو 3 أمتار. ويعزز من فرص حدوث هذه التقاطعات في كثير من الأحيان عدم صدور المخططات الاستراتيجية المعتمدة، على الرغم من وجوب صدورها خلال عامين من تاريخ العمل بالقانون رقم 119 لسنة 2008، وتجدد تلك المهلة مرة واحدة فقط هى 6 أشهر (مادة 15). وبالرغم من ذلك، وبعد مرور نحو العقد تقريبًا على صدور القانون، فلا تزال الغالبية العظمى من مدن وقرى مصر بلا مخططات إستراتيجية. وينص القانون على أنه فى حالة عدم إصدار تلك المخططات يُعمل بالمخططات السارية والصادرة بموجب قانون البناء السابق، رقم 106 لسنة 1976 (مادة 17).

ولكن المعضلة الكبرى تقع في اختلاف تفسير الوحدات المحلية لمواد القانون واللائحة التنفيذية الخاصة به، التي تتعلق بوضع قطع الأراضي في المناطق التي لم يصدر لها اشتراطات دائمة، حيث تعمل بعض الجهات على أساس القواعد العامة للقانون، بينما تعمل جهات أخرى على الاشتراطات المؤقتة أو الصادرة بموجب القوانين السابقة. ويتأثر مسار رخصة المباني بمدى فهم القائمين على إصدارها هذه التقاطعات، فمن الممكن أن تختلف نتيجة عملية إصدار الترخيص من وحدة محلية إلى أخرى بناءً على ما تراه جهة الإدارة وليس استنادًا إلى مواد قانونية. وعليه، فإن العديد من الحالات _التى يقدم فيها أصحاب الأملاك الراغبون فى الالتزام بالقانون وإصدار تراخيص البناء قبيل الشروع فى عملية البناء ذاتها_ تنتهى بالفشل، ما يدفعهم إلى البناء خارج الإطار القانوني بسبب صعوبة تطبيق الوضع القانوني الخاص بهم، أو للإجحاف الذي يقع عليهم في حالة تطبيق القانون نفسه أو في حالة تطبيق مفهوم جهة الإدارة عن القانون.

 

محافظة الجيزة: شاهد على الواقع

يمكن دراسة حالة الاشتراطات المُصدَرة في محافظة الجيزة كمثال لتخبط وحدات الإدارة المحلية فى فهم القانون والضرر المترتب على ذلك الواقع على الأفراد،[5] والذي يؤدي إلى لجوئهم إلى بنائهم بدون ترخيص أصلًا وحرمانهم من المرافق بالإضافة إلى الضرر النفسي الواقع عليهم من جراء وَصْمِهم من قِبَل الدولة بالعشوائيين وربط الإعلام تلك المناطق بالفوضى والغوغائية وانتشار الجريمة. وتمثل الجيزة مكانًا مميزًا لتوضيح الصراع على العمران بين الأفراد والمجتمع من جهة وبين الدولة من جهة، من حيث وجود ساحات مختلفة يحدث فيها مخالفات من قبل الأفراد بالبناء على الأرض الزراعية على سبيل المثال أو ظهير صحراوي قامت الدولة بتسليع الأرض في مدنه الجديدة وحرمان المنتمون إلى الطبقات البسيطة في المجتمع من حقهم في السكن اللائق.

السيدة “هـدى” تمتلك قطعة أرض فى نطاق حي العمرانية مساحتها 70 م2 تطل على شارع عرضه 8 أمتار ولها 3 أولاد ذكور أرادت أن تؤمن لأسرتها المسكن اللائق الذي يجمعها مع أبنائها مع إيجاد فرص عمل مناسبة لهم. وبناءً عليه شرعت في الحصول على رخصة مبانٍ لقطعة الأرض خاصتها سنة 2017. وفقًا للاشتراطات البنائية فإنه من الممكن البناء على كامل المسطح لوقوع الأرض على شارع عرضه أقل من 15 مترًا، وكذا فإن قيد الارتفاع المصرح به في هذه الحالة هو 12 مترًا، ما يعني السماح ببناء دور أرضي و3 أدوار متكررة. إلا أنه وفقًا لهذه الحسبة يصبح إجمالي مسطح المباني في الدور الأرضي والأدوار المتكررة 280 مترًا مربعًا، ووفقًا لاشتراطات البناء الخاصة بمحافظة الجيزة فإن تلك المساحة تستوجب إنشاء جراج للسيارات في العقار المزمع إنشاؤه. وإن كان القانون لا يجبر الملاك على إنشاء أماكن إيواء السيارات أسفل العقار _في دور سفلي أو بدروم_ فإن تلك الاشتراطات وضعت السيدة “هدى” أمام عدة خيارات أو عقبات أمام هدفها الأصلي من إنشاء العقار. فالحل أمامها فى تلك الحالة هو تقليل المساحة المبنية عن طريق التخلي عن أحد الأدوار بما يعني التخلي عن فرصة السكن لأحد أولادها، أو إنشاء الجراج في الدور الأرضي ما يجعلها تضحي بمسكنها هي أو بالمساحة التي تعتزم استخدامها كمحل تجاري يُدِرُّ عليها وعلى أسرتها الدخل، أو إنشاء دور سفلي لإيواء السيارات ما يرفع التكلفة. وكل الحلول المطروحة تمثل نوعًا من المساومة على حقوق الأسرة في التصرف في أملاكها من أجل ممارستهم حقوقهم في السكن المناسب. (حتى كتابة هذه السطور ما زال الوضع معلقًا)

الحالة الثانية هي أرض مملوكة للسيدة “فهيمة”، وترغب في الاشتراك مع مقاول لإنشاء عمارة من أحد عشر دورًا، تحتفظ للأسرة بنصف وحداته ومحلات بالدور الأرضي، وتسلم الشقق الأخرى إلى المقاول، وهو نصيبه مقابل تمويل عملية البناء. تقع الأرض على شارع يبلغ عرضه أمام القطعة 26 مترًا على الطبيعة، ولكن كانت المفارقة أن كشف التحديد المرفق، وهو السند الرسمي لتحديد عروض الطرق، نصَّ على أن الطريق عرضه 8 أمتار فقط، وذلك لأن الشارع الذي تقع عليه قطعة الأرض كان فى الأصل ترعة تم ردمها لتوسعة مسارات الحركة في المنطقة. وبعد توسعة الشارع صار هناك فرق بين الشارع التخطيطي والشارع الموجود على أرض الواقع. وفقًا للاشتراطات العامة بقانون البناء، يمكن الحصول على أقصى ارتفاع للبناء: 36 مترًا (12 دورًا) أو ما يعادل مرة ونصفًا عرض الشارع، أيهما أقل. فبعد أن كانت المالكة تحسب حساباتها على بناء 12 دورًا، تم الخسف بهذا الحلم إلى ثلثه فقط. كما أنه وفقًا للاشتراطات البنائية الخاصة بمحافظة الجيزة فإن نسبة المباني تبلغ 60% فقط من مسطح الأرض، وليس كامل مساحة القطعة، مع وجوب ترك 3 أمتار ردود جانبية من الواجهات الثلاث بخلاف الواجهة الرئيسية الواقعة على الشارع. تأتى المشكلة في تلك الحالة من ضيق عرض تلك الواجهة الرئيسية، وهى 10 أمتار فقط، ما يجعل المتاح للبناء عقب خصم الردود الجانبية 4 أمتار فقط.

حاول الملاك عند التقدم للحصول على ترخيص البناء إيجاد حلولًا تصميمية، بحيث يتم توزيع الفراغ _40% من مساحة الأرض_ بما يتيح تصميم عقار يخدم الأنشطة السكنية والتجارية المرادة منه. حاز التصميم على قبول المجمعة العشرية، وهي الجهة المختصة ببيان صلاحية التصميم من الناحية الإنشائية. إلا أن إدارة التنظيم بحي بولاق الدكرور لم توافق على الرسم الهندسي المقترح وإعادته إلى صاحب الشأن من أجل تعديله. حينها أعادت المهندسة القائمة على المشروع التصميم وفقًا للملاحظات، وتم عرض التصميم الإنشائي المعدَّل على المجمعة العشرية، ولكنها بدروها رفضته لمخالفته الاشتراطات الفنية المرتبطة بالعلاقة بين ارتفاع المبنى وعرض قاعدته البنائية وتوزيع الهيكل الخرساني. وبعد عدة محاولات تصميمية أخرى كانت النتيجة التخلي عن نسبة أكبر من مساحة الأرض من أجل توفيق الأوضاع بين الاشتراطات البنائية والسلامة الإنشائية، والذي يعني في آخر الأمر خسارة الملاك جزءًا من رأس مالهم واضطرارهم إلى القبول بأقل كثيرًا مما كانوا يخططون له.

أما الحالة الثالثة فتتعلق بالقواعد الحاكمة لتقسيم الأراضي ومدى ملاءمتها للواقع في مصر وتحديدًا في المناطق التي بُنيت على أراضٍ زراعية. حيث أراد السيد “سمير” إصدار تراخيص للبناء على قطعتي أرض آلتا إليه بالميراث من أبيه، وكانتا آخر قطعتي أرض فضاء ضمن حوض زراعي تم بناء كامل مساحته. تم تقسيم الحوض عرفيًّا بمعرفة الملاك وبيعها بموجب عقود ابتدائية تشير إلى الملكية الأصلية للأرض _الحوض الزراعي_ وأن تلك الأرض قد تم تقسيمها وبيعها بمعرفة المالك الأصلي، لأفراد قاموا بدورهم بالبناء عليها. وحين البدء في السير في إجراءات التراخيص، فوجئ المالك بطلب من إدارة التقسيم في مدينة الجيزة بتوفيق أوضاعه عن طريق دفع رسوم إدخال المرافق من مياه وكهرباء وصرف صحي، ليس لقطعة أرضه فقط، وإنما لجميع العقارات التي تم بناؤها في الحوض الزراعي الذي تقع فيه قطعة أرضه، والتي تم توصيل المرافق إليها بدون تصريح. في البداية أَصرَّ صاحب الأرض على توفيق أوضاع قطعتي الأرض التى يملكها فقط، إلا أن تعقُّد الأمر وتدخُّل العديد من الجهات ما بين حي بولاق الدكرور ومدينة الجيزة وجهاز التفتيش الفني على أعمال البناء التابع لوزارة الإسكان، وحتى وزارة الإسكان نفسها، كل هذا أدى إلى امتداد النزاع القانوني لمدة جاوزت العشر سنوات، ما جعل مالك الأرض يقبل بدفع كامل مبلغ إدخال المرافق. جدير بالذكر أن السيد “سمير” المشار إليه فى الحالة الثالثة قد توقف عن الالتزام بتراخيص البناء فيما يتعلق بأملاكه التى شرع في البناء عليها بعد تلك الحالة.

 

اشتراطات غير واقعية

تظهر مشكلتان أساسيتان من خلال هذه الحالات، الأولى هي جدوى الاشتراطات نفسها من منظور السكان على جانب ومن منظور جهة الإدارة على الجانب الآخر. فواضع الاشتراطات افترض أن ملاك الأراضي هم قطعًا من الأثرياء وملاك السيارات ووسائل الرفاهية الأخرى، وبالتالي وضع قيدًا في ظاهره الحفاظ على الفراغ العام _الشارع_ من الازدحام نتيجة استخدام مسارات الحركة في انتظار وإيواء السيارات، وبناءً عليه أجبر ملاك العقارات على إلحاق أماكن الإيواء تلك بمخططاتهم. أغفلت تلك الاشتراطات أن بعض ملاك الأراضي والعقارات ليسوا بالضرورة من الأغنياء أو ممن يقتنون أو يستخدمون السيارات الخاصة عمومًا. كما أن تلك المناطق تتميز بوجود نظم اجتماعية تقر قواعد استخدام الفراغات العامة حتى إيواء السيارات. وهنا يظهر تجاهل المشرِّع للقواعد والظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بعملية البناء وما يترتب عليها من الحق في السكن.

المشكلة الثانية تتعلق بكيفية تنفيذ القانون وتفسيره من جانب جهة الإدارة ومدى ملاءمته للواقع. فلو أخذنا حالة حي بولاق الدكرور واشتراطات البناء الخاصة بمحافظة الجيزة على سبيل المثال، فسنجد أن تطبيق القانون صار رهنًا بمدى فهم العاملين على إصدار التراخيص له، وتأثير ذلك سلبًا وإيجابًا على مشروعية عملية البناء. فنجد الموظفين من المهندسين والإداريين الذين يغالون في الالتزام بطلبات الترخيص إلى حدٍّ يجعل الحصول عليه ضربًا من المستحيل. وعلى الجانب الآخر نجد من يسهِّل للملاك إصدار تلك التراخيص استنادًا إلى فهمهم القواعد القانونية ذات الصلة. ونشأت تلك الازدواجية لسببين أساسيين، أولهما: تواتر القواعد القانونية مع عدم مواكبتها لأرض الواقع من حيث تغير استخدامات الأراضي من الزراعة إلى البناء ونشوء حقائق جديدة على أرض الواقع، مثل تجفيف الترع والمصارف وردمها وتحويلها إلى شوارع. والسبب الثاني لهذه الازدواجية هو تدخل الجهات الرقابية المستمر في الأعمال الفنية في جهات الإدارة المحلية، ما يضع أطقم العمل تحت ضغط مستمر ويؤدي بهم إلى اللجوء إلى اتخاذ أقصى درجات الاحتياط وعدم التساهل مع المواطنين أو حثهم على توفيق أوضاعهم خوفًا من وقوعهم تحت طائلة تلك الجهات.

هذا بينما تتعامل الاشتراطات الخاصة في محافظة الجيزة، كمثالٍ مع المناطق المعنية، كصفحات بيضاء يمكن التحكم في التغييرات التي تطرأ على العمران بسهولة فيها. فمحافظة الجيزة مثلًا تم بناء العديد من مناطقها على أراضٍ زراعية وعن طريق تمدد القرى القديمة والتحامها بعضها ببعض. كما أن العديد من شوارعها الرئيسية والفرعية كانت في الأصل ترعًا ومصارف زراعية تم ردمها من أجل استخدامها كطرق عقب انتفاء الحاجة إليها بعد البناء على الأراضي الزراعية، مثل شارع الملك فيصل وشوارع زنين وناهيا وترعة عبد العال وعلي بن أبي طالب في حي بولاق الدكرور. في مثل تلك المواقف ينتج عدم انتظام لعرض الشارع أو خط التنظيم.[6] وتبعًا لهذا الاختلاف من الممكن أن نجد أبعادًا وعروضًا مختلفة للشارع الواحد ما يؤثر على النسب البنائية.

 

الخلاصة: اللامركزية والمنطق

نشأ عن تلك الازدواجية إفراغ عملية إصدار تراخيص المباني من مضمونها الأساسي وهو تقنين التعامل في البيئة المبنية. وأصبحت عملية إصدار تلك التراخيص رحلة غير مضمونة العواقب من حيث المُنتَج النهائي أو التكاليف المادية والمعنوية. وأدت أيضًا إلى نشوء بيئة خصبة للفساد في المحليات عن طريق شبكات من العلاقات التي تتعامل مع الملاك المتقدمين للحصول على تراخيص في مقابل أتعاب تدفع بعيدًا عن القانون من أجل تسهيل الإجراءات.

يعد انفصال التشريعات المتعلقة بأعمال البناء والتخطيط العمراني عن الواقع من الأمور ذات التأثير السلبي المؤدي إلى تصنيف غالبية المسكان أنها غير رسمية، وما يترتب عليه من فقدان المواطنين حقهم في حيازة آمنة لسكن مناسب. يتطلب إصلاح ذلك الوضع إعادة النظر في تلك التشريعات، وهناك فرصة قوية لهذا حيث يناقش مجلس النواب تعديلات لقانون البناء في هذه الفترة.

تدور التعديلات المقترحة للقانون حول تفعيل المواد المتعلقة بإجراءات التراخيص وإصدار المخططات الإستراتيجية والتفصيلية للمدن والقرى على مستوى الجمهورية، وذلك عن طريق وضع قيود وقتية على تلك الإجراءات. كما يَنصَبُّ جزء آخر من تلك التعديلات على حصر دور الوحدات الإدارية على التصديق على التراخيص والتي يتم إعدادها بواسطة مكاتب استشارية معتمدة وذلك بدعوى الحد من قدرة موظفي المحليات على الفساد والتلاعب.[7] كما تم أيضًا الحديث عن أهمية العمل على وضع إطار للتعامل مع مخالفات البناء، على أن يتم العمل على المحورين على التوازي من أجل غلق باب الفرص أمام المخالفين.[8]

إلا أنه من الواضح أن تلك التعديلات المقترحة على الرغم من أهميتها فإنها تدور في نفس الإطار الذي أدى إلى حدوث المشكلة في الأساس، حيث تظل المنظومة التشريعية المركزية هي الأساس فيما يتعلق بتشريعات البناء. فيما نحتاج إلى العكس لهذا تمامًا: منظومة تنفيذية للتخطيط العمراني والبناء تعمل في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المحلية والمتعددة المحيطة بعملية البناء على أرض الواقع، خصوصًا المناطق القديمة فى المدن والقرى. ولهذا يجب تركز تلك التعديلات على إعطاء دور أكبر للمحليات بعد تأهيل كوادرها في تشريع وتنفيذ تلك القواعد، في وجود مرجعية مركزية قوية حتى تحقيق اللامركزية في الإدارة المحلية كاملة، وإصدار قواعد أقرب إلى الواقع وأسهل على المواطنين في التطبيق حتى يتيسر عليهم الالتزام بتلك القواعد، ومشاركتهم الفعالة والرسمية في عملية التخطيط العمراني والبناء، على ظهر قيامهم بدور بارز في البناء الذاتي وتوفير المسكن الملائم، لهم، ولآخرين.

 

شكر وعرفان

كتابة: على المغازي

مراجعة: يحيى شوكت

مراجعة لغوية: أحمد الشبيني

الصورة الرئيسية: قرية شبرامنت، الجيزة. تصوير: يحيى شوكت

الملاحظات والمراجع

] سلمى شكرالله و يحيى شوكت, “تحليل: سياسات الحكومة تُسلِّع السكن,” مرصد العمران, 17.11.2017, http://marsadomran.info/policy_analysis/2017/11/1334/

[2] يحيى شوكت, العدالة الإجتماعية والعمران | خريطة مصر, 2013, http://blog.shadowministryofhousing.org/p/blog-page_2887.html

[3] عشرة طوبة, “مؤشر الحرمان العمراني – أمن الحيازة,” مؤشر الحرمان العمراني, 2016, https://tinyurl.com/y83khaqf

[4] بالإضافة إلى لائحته التنفيذية طبقًا لقرار وزير الإسكان رقم 144 لسنة 2009 والتي بها المزيد من التفاصيل، وتعديلاتهما.

[5] من خلال عدد من المقابلات مع مهندسين بالوحدة المحلية

[6] خط التنظيم هو الخط المار بواجهات المباني على نفس الجهة من نفس الشارع.

[7] عبد الجليل، هشام (4 نوفمبر 2017) “ننشر تعديلات قانون البناء الموحد 119 قبل إقراره بالبرلمان.” اليوم السابع. تم الاطلاع عبر: http://www.youm7.com/3494330 بتاريخ 4 إبريل 2018. و: عبد الجليل، هشام (18 سبتمبر 2017) “قائمة تعديلات قانون البناء الموحد المنتظر مناقشتها فى البرلمان.” اليوم السابع. تم الاطلاع عبر: http://www.youm7.com/3419016 بتاريخ: 4 إبريل 2018.

[8] عبد الجليل، هشام (27 يناير 2018) “باقي من الزمن 60 يومًا.. توقعات بإقرار قانوني تعديلات البناء الموحد 119.. والتصالح في المخالفات خلال شهرين.. وكيل “إسكان البرلمان”: لا بد من إقرارهما بالتزامن حتى لا تحدث فجوة.. و39% من المباني في مصر مخالفة.” اليوم السابع. تم الاطلاع عبر: http://www.youm7.com/3617907 بتاريخ 4 إبريل 2018

Stay Updated with our Newsletter

اشترك بالقائمة البريدية لتحصل على آخر التحديثات