المدينة في حالة حراك: مقارنة التوزيع المكاني لخدمات المواصلات في ضاحية للقاهرة الكبرى

  • نُشرت في 13 مارس 2018

يستكشف هذا المقال كيف يساعد الموقع المكاني في خلق وتعزيز التهميش الاجتماعي-المكاني داخل المدينة، من خلال علاقة قيمة الإيجار بتكلفة المواصلات، فى مدينة السادس من أكتوبر.

 

مقدمة[1]

العمود الفقري لأي مدينة كبيرة هو نظام مواصلات يعمل بكفاءة: حافلات، مترو أنفاق، وترام، تتحرك في شبكة من الطرقات والكباري وخطوط السكك الحديدية. المواصلات هي صلب الحياة المدنية المعاصرة. وعليه فالحركة _القدرة على التنقل من مكان إلى مكان بسهولة وحرية_ عنصر أساسي من عناصر التجربة العمرانية الحديثة وحق أساسي لكل إنسان.

بالرغم من أنه يمكن الجدل بأن نظام مواصلات القاهرة :”يعمل”،[2] إلا أن البنية التحتية لنظام المواصلات تعاني مشاكل كبيرة.

تعتمد الغالبية العظمى من عموم السكان على المواصلات الجماعية في انتقالاتهم اليومية. فقط 10 في المئة من سكان القاهرة الكبرى التي يزيد تعدادها على 23 مليونًا[3]، يمتلكون سيارة خاصة، و8.7 في المئة من الأسر وبالتالي فاحتياج المدينة إلى المواصلات ضخم.[4] وتنقل أجهزة التنقل الرسيمة بالقاهرة (أتوبيسات، مترو وترام)  1.4 مليار راكب سنويًا.[5] تضاعف هذا الطلب بسبب ظهور مجموعة من المدن الصناعية الجديدة منذ أواخر السبعينات في ضواحي العاصمة ولكن سكانها في حاجة للتواصل بقوة مع المدينة. وعلى هذا النحو، فإن الحاجة إلى وسائل النقل الجماعي لم تزداد فقط بين المستوطنات العمرانية القائمة والجديدة، ولكن أيضا داخل هذه المدن الجديدة. وسواء استمعنا إلى شكوى سكان المدن العاديين أو درسنا وثائق سياسة الحكومة،[6] فمن الواضح أن فرق كبير بين قدرة النقل الجماعي في القاهرة الكبرى ونمو احتياجات. ومع ذلك، فلا تفشل القدرة على تلبية الطلب على نطاق المدينة فحسب، بل توجد أيضا تفاوتات كبيرة بين الأحياء داخل القاهرة من حيث تقديم خدمات النقل وإمكانية الوصول إليها.

 

إذا اخذنا ذلك بعين الاعتبار، فهذا المقال يستكشف التوزيع المكاني لخدمات المواصلات في إحدى المدن الصناعية، على بعد 34 كم غرب قلب القاهرة، وهى مدينة السادس من أكتوبر والتي تعطى مثال جيد لدراسة كيف تؤثر السياسات النيوليبرالية في التخطيط المركزي في توزيع الخدمات الحضارية بشكل غير عادل اجتماعيًّا. نركز هنا في ثلاث مناطق جغرافية في مدينة أكتوبر، تمثل المركز الحضري ومحيطه. بذلك، وبعد بحث داليا وهدان السابق،[7]هذا المقال يحقق في كيف يساعد الموقع المكاني في خلق وتعزيز التهميش الاجتماعي-المكاني داخل المدينة. الدراسة تركز في منطقتين سكنيتين في قلب مدينة أكتوبر بنيا من قبل الشركات الخاصة والأفراد، ومنطقة ثالثة بها إسكان حكومي مدعم على أطراف المدينة. الدراسة تُدلِّل على أن التكوين المكاني لمدينة أكتوبر نفسه، هو نتيجة لسياسات رأسمالية نيوليبرالية في التطوير العمراني، وهو ما يؤدي إلى تفرقة اجتماعية-مكانية في المدينة. هناك دلالة على كيف تخدم شبكة المواصلات سكان نفس المدينة بطريقة غير عادلة.

التكوين المكاني لمدينة السادس من أكتوبر

تذكر الحكومة المصرية أن مصر تعاني توزيعًا غير عادل للسكان حيث يسكن الغالبية  في مساحة محدودة، وهى الوادى والدلتا.

هذه الأسطورة[8] كانت أساسًا منذ عام 1976 للعمل على سياسة طموحة لـ”غزو الصحراء” عبر إستراتيجية للتطوير المكاني لإعادة توزيع السكان من الوادي على الأراضي الصحراوية الشاسعة. وهو ما عُرف بعدها بمشاريع المدن الجديدة، أي تأسيس عدد من المدن الجديدة على أطراف المستوطنات العمرانية الموجودة بالفعل. هذه “المجتمعات العمرانية الجديدة” صُممت بهدف خلق أقطاب نمو في الصحراء لتستوعب أعدادًا متزايدة من السكان، مع إعادة توزيع الأنشطة الاقتصادية أيضًا.

أنشئت عام 1981، مدينة السادس من أكتوبر بهدف أن تكون منفصلة اقتصاديًّا ومستقلة جغرافيًّا عن التجمعات العمرانية القائمة. [9] وفي أوائل التسعينيات، خضع المفهوم الأصلي للمدن الجديدة وسياسات إدارة الأراضي المرتبطة بها لتغييرات أساسية. حتى ذلك الحين، كانت الفئات السكانية الرئيسية التي سعت إلى اجتذابها هي الطبقات العاملة من خلال بناء أعداد كبيرة من الوحدات السكنية بأسعار معقولة ومدعومة من الدولة. ولكن مع  دفع الرئيس حسني مبارك وتصعيد سياسات الدولة النيوليبرالية الاقتصادية، والتي بدأت مع سياسة الرئيس السادات المعروفة بـ”سياسة الانفتاح” لمدة عقدين، تم اعتماد سياسة تهدف إلى الربح من جانب “الدولة الرأسمالية” فيما يتعلق بتطوير الصحراء[10]. وبالنسبة إلى مدينة أكتوبر، كان هذا يعني التوسع الهائل في حدودها الجغرافية في الصحراء المحيطة وبيع مساحات شاسعة من الأراضي للشركات العقارية الخاصة. وكانت النتيجة أن الاستثمارات الرأسمالية الخاصة، ضخت عددًا كبيرًا من الوحدات في سوق المساكن للمضاربة، ما أدى إلى ترك الكثير من الوحدات شاغرة أو متوقفة.[11]

 

الشكل رقم 1. صورة الأقمار الصناعية للحدود الإدارية لمدينة 6 أكتوبر (قبل عام 2017) ومشروع الإسكان الاجتماعي “بيت العيلة” على أطراف المدينة.

مصدر الصورة: Google earth  والإضافات لسمير شلبي، ونهال رجب.

  

 

تتكون المدينة حاليًّا من 12 حي سكني رسمي موزع بشكل عمودي على طول طريق محوري مركزي يقطع المدينة بأكملها: بالإضافة إلى حي راقٍ (الحي المتميز)، ومنطقة سياحية، فضلًا عن منطقة صناعية كبيرة في أقصى الغرب. ومن بين المناطق التي تمت مناقشتها هنا: الحي الأول والحي الثاني، في حين أن المنطقة الثالثة هي مشروع سكني مدعوم من الحكومة يسمى “بيت العيلة”، ويقع حنوب غرب الحى السادس. فيما وصل سكان المدينة إلى 190 ألف نسمة فقط،[12] تصل مساحة المدينة 681 كم مربع، وتكاد تكن مساحة مدينة القاهرة نفسها. لذا المسافات متباعدة بين المناطق المعمورة داخل المدينة، مما سبب مشاكل في توفير شبكات مقل جماعي ملائمة.

 

 

التنقل في قلب المدينة

حتى منتصف السبعينيات، استحوذت هيئة النقل العام بالقاهرة على نصيب الأسد من جميع رحلات النقل الجماعي داخل القاهرة الكبرى.بعد ذلك، بدأت الميكروباصات الخاصة غير الرسمية في الظهور وأصبحت منذ ذلك الحين الوسيلة المهيمنة للنقل الجماعي في القاهرة. تخدم المواصلات المناطق المختلفة بشكل تلقائي اعتمادًا على الطلب، وهذا يعني أن المناطق التي لديها أعلى كثافة سكانية أكثر عرضة للخدمة بانتظام، من المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة. ونتيجة لذلك، عانت مدينة 6 أكتوبر نظام نقل جماعي غير رسمي، وغير مكتمل.

وبالرغم من الحديث عن خلق شبكة أتوبيسات عامة تخدم المدينة كلها، فإن هذه الخطط لم تكلل بالنجاح، ووقعت المواصلات في أيدي الميكروباصات والتوك توك و”بوكس الفيوم” (عربات الربع نقل) لتخدم احتياجات المدينة الواسعة إلى المواصلات. فحسب أحد الخبراء: “كانت هناك أفكار لأنظمة النقل الجماعي ولكن […] الحكومة لم توفرها. وقد تركت دائمًا الأمر للقطاع الخاص ليتحكم في المواصلات، دون أي تخصصات أو آليات منتظمة، النقل الجماعي الحضري مشكلة حقيقية في المدن الجديدة “.[13] فيما يرى مؤيدو “غزو الصحراء” في مصر أنه على الرغم من عدم وجود نظام نقل عام داخل المدينة، فإن الموردين الخاصين للمواصلات يخدمون جميع مناطق المدينة. ومع ذلك، فإن نظرة فاحصة تكشف عن وجود استقطاب مكاني واضح بين الأحياء الوسطى في مدينة أكتوبر والمناطق الواقعة على هامش المدينة.

 

.

الشكل رقم 2. صورة بالاقمار الصناعية للمنطقة العمرانية الرئيسية في مدينة أكتوبر. المصدر: جوجول إيرث. إضافات لسمير شلبي ونهال رجب.

 

يقع الحي الأول والحي الثاني بالقرب من الطريق المحوري الرئيسي والمؤدي إلى ميدان الحصري، الذي يعتبر قلب وسط المدينة. المسافة من بداية الشارعين التجاريين الرئيسيين في الحي الأول والثاني إلى ميدان الحصري تبعد 500 متر، وتستغرق أكثر قليلًا من خمس دقائق لتخطيها بالأقدام. ويوجد بالقرب من ميدان الحصري مسجد الحصري، الذي ظهر أمامه نقطة تحميل رئيسية وغير رسمية للميكروباصات. فهنا تصل العربات من ميدان التحرير وميدان لبنان وغيرها من الميادين المركزية في القاهرة إلى محطتها النهائية، ومن ثم، تبدأ رحلة العودة إلى القاهرة. هنا أيضًا محطة رئيسية محلية للعديد من الميكروباصات العاملة داخل مدينة 6 أكتوبر التي تنقل الركاب بين أحياء المدينة.

تسير الميكروباصات ذهابًا وإيابًا على الطريق المركزي، ويقف السائق حيثما يريد الراكب أن ينزل من الحافلة، في أي مكان على طول الطريق المحوري المركزي. وأحد الاستثناءات هي الميكروباصات التي تذهب إلى الحي السادس حيث تغادر الطريق المحوري وتدخل المنطقة مباشرة وتقف عند نقطة تحميل غير رسمية كبيرة حيث يوجد في الغالب التوك توك وبوكس الفيوم، ولكن أيضًا عدد قليل من الميكروباصات، تخدم المناطق الداخلية والمنطقة الصناعية المجاورة.

على الطريق بين الحي الأول والثاني، على بعد حوالي 600 متر أو حوالي سبع دقائق سيرًا على الأقدام من مسجد الحصري، تقع محطة الحافلات الرسمية الإقليمية التي بنيت حديثًا للميكروباصات التي تربط المدينة بالقاهرة، والمحافظات الأخرى. هذه المحطة حلت مكان محطة تحميل غير رسمية كانت تقع على بعد حوالي 200 متر فقط بالقرب من مسجد الحصري، ولكنها لا تعمل الآن بعد وجود المحطة الجديدة. أيضًا، بين الحي الأول والثاني تقع نقطة التحميل غير الرسمية للتوك توك، الوسيلة الرئيسية للتنقل داخل أحياء المدينة.

وبالتالي، فإن الحي الأول والحي الثاني يرتبطان على الأقل بثلاث نقاط للنقل الجماعي (نقطة تحميل مسجد الحصري، ومحطة الحافلات، ومحطة تحميل التوك توك) تقع كلها بالقرب نسبيًّا من المناطق السكنية. ومع قلة الميكروباصات في المناطق الداخلية من الأحياء، يتواجد التوك توك بسهولة. كذلك، وكما سيتبين لاحقًا، بما أن المستوى المعيشي متقارب نسبيًّا، بين هذه الأحياء، والسكان نسبيًّا من ميسوري الحال، فإن تكاليف التنقل لا تمثل عبئًا كبيرًا على ميزانية الأسر. ويمكن تحديد الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهذه المناطق عن طريق فحص مستويات إيجار المنازل وحساب دخل ونفقات المقيمين. واستنادًا إلى العمل الميداني، تنفق الأسر في الحي الأول والثاني 6.5 في المئة فقط من دخلها الشهري على التنقل، ولكن نسبة باهظة تبلغ 65 في المئة من دخلها تنفقها الأسر على الإيجار (الجدول 1).. ويمكن مقارنة ذلك مع متوسط ​​الإنفاق على التنقل والإيجار في الجيزة الذي كان كبيرًا، حيث كان  7.4 و24.2 في المئة على التوالى(الجدول 1).

 

الجدول رقم 1: مقارنة بين متوسط الدخل والإنفاق الشهري في مناطق الدراسة

    الجيزة الحى الأول والثاني* بيت العيلة*
إجمالي الدخل الشهري جنيه 2686** 4600 1500
الإيجار الشهري جنيه 650** 3000 700
  نسبة من الدخل 24.2%** 65% 46.7%
الإنفاق على المواصلات

 

جنيه 199 300 450
  نسبة من الدخل 7.4%*** 6.5% 30%
المصادر:

*حسب صفحة خاصة بالعقارات على فيس يوك، وبعض المقابلات مع معارف بالمنطقة

**عشرة طوبة. مؤشر الحرمان العمراني – القدرة على تحمل تكاليف السكن. سبتمبر 2016

*** حضر مصر حسب: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك لسنة 2015

 

الثمن الأقل من المتوسط للانتقال يمكن أن يعزى إلى حقيقة أن هذه المناطق قريبة جغرافيًّا من الأماكن المركزية وقريبة من أماكن العمل والمجمعات الخدمية ولذلك فالرحلات قصيرة. وفقًا للنظريات السائدة للهيكل العمراني وتحديد الإيجار، والنموذج الأساسي الذي يحمل على أن “المواقع المركزية في المدن تتطلب نفقات نقل منخفضة، وإيجارات مرتفعة، في حين أن المواقع النائية لديها إيجارات منخفضة ولكنها تنطوي على نفقات التنقل العالية” يمكن إيجاد علاقة عكسية بين مستويات الإيجار ونفقات التنقل في الحي الأول والثاني. [14]

الشكل رقم 3. التوزيع المكاني للخدمات في الحي الأول والثاني. المصدر “جوجول إيرث”، إضافات من سمير شلبي ونهال رجب.

 

في مقابلات مع سكان الحي، لم يعتبروا المسافة إلى ميدان الحصري، التي تقع حول منطقة تجارية حيوية، أو إلى مجمعات الخدمات الأخرى داخل الأحياء السكنية، لتشكل أزمة في حياتهم اليومية. في الواقع، لم يشتكِ أيٌّ من السكان من نقصٍ في أيٍّ من الخدمات.

 

المواصلات على الهامش المكاني

 

من أجل إجراء تقييم كافٍ لتوزيع خدمات النقل وإمكانية الوصول إليها داخل المدينة، تُستخدم هنا منطقة “بيت العيلة” كمثال حي يقع على أطراف الحي السادس الفقير، بعيدًا عن المنطقة المركزية.. ويقع بيت العيلة،[15] الذي يسكنه الآن أغلبية من اللاجئين السوريين على أطراف المدينة الجنوبية. ويعمل أكثر سكان بيت العيلة في وظائف متواضعة، معظمهم من العمال غير المتنظمين. مع بعد مسجد الحصري على نحو 10 كم إلى الشمال الشرقي من المنطقة، يعتبر الحي في عزلة عن المناطق المركزية للمدينة. وسائل النقل الرئيسية المتاحة لسكان بيت العيلة هي التوك توك، في حين أن الميكروباص قلما يعبر حدودها.

 

بالرغم من وجود مجمع صغير للخدمات الأساسية جدًّا على الحدود الجنوب غربية لبيت العيلة (الشكل رقم 4)، فإن أقرب مجمع تجاري كبير فيه تنوع في الخدمات، يقع على امتداد المحور المركزي، ويبعد ثلاثة كيلو مترات، يمكن للسكان الوصول إليه بالتوك توك والرحلة ذهابًا وعودة تكلف 10 جنيهات. أما إذا كانت وجهتهم مسجد الحصري، فسيحتاج الراكب إلى ركوب توك توك إلى أقرب نقطة على المحور المركزي، ثم يغير بميكروباص إلى الحصري تكلفته ثلاثة جنيهات للرحلة، وبذلك تصبح التكلفة الإجمالية 16 جنيهًا للرحلة ذهابًا وعودة، أو أكثر. أما المسافرون إلى قلب القاهرة كميدان التحرير أو رمسيس فستكلفهم الرحلة 4 أو 5 جنيهات إضافية (9 أو 10 جنيهات للرحلة ذهابًا وعودة).

 

 

.

الشكل رقم 4. توزيع المنافذ الخدمية حول بيت العيلة. المصدر جوجول إيرث. إضافات سمير شلبي ونهال رجب.

 

ذكر السكان أثناء المقابلات، مشكلة ارتفاع ثمن المواصلات بشكل متكرر. بينما تنخفض الإيجارات في بيت العيلة إلى أقل من ثلث الإيجار في الأحياء المركزية. الإنفاق على المواصلات بلغ أكثر من خمس مرات أكثر بالنسبة إلى الدخل، ملتهمًا نسبة تبلغ 30 في المئة من الدخل (جدول رقم 1). فالأسر ذات الدخل المحدود تعيش في هذا الحي المهمش مكانيًّا.

 

الاستقطاب الاجتماعي-المكاني للمواصلات

هناك تباين مكاني واضح عندما يتعلق الأمر بتوفير وإتاحة خدمات النقل في مدينة السادس من أكتوبر. ويمكن أن ينظر إلى هذا الاستقطاب الاجتماعي- المكاني، على مستوى أوسع، من خلال عملية التنمية المكانية غير المتكافئة[16]، ميل الرأسمالية المتكرر إلى التراكم المفرط الذي يتجلى جغرافيًّا إذا ما نظرنا إلى قدرة المناطق التي تعتبر مربحة اقتصاديًّا على جذب الاستثمارات الرأسمالية، في حين غياب هذه القدرة عن مناطق أخرى.[17] والنتيجة هي التوزيع غير المتكافئ مكانيًّا للموارد.[18]

 

في سياق سياسات الانفتاح التي تبناها السادات، فإن ما يسميه دافيد هارفي بـ”الإصلاحات المكانية” تأتي كاستجابة لمشاكل التراكم.[19] ومن أجل حل أزمة التراكم، سعت الحكومة إلى تطوير المؤسسات الصناعية، مصحوبة بحوافز ضريبية واستثمارية ضخمة من أجل جذب المشروعات الخاصة.[20]  انطلاقًا من الفكرة الأساسية للمدن الجديدة، وبخاصة  أكتوبر، وهي توزيع عادل لموارد سكانها ودعم محدودي الدخل، بدأت الحكومة، وخصوصًا السلطات في مدينة  أكتوبر، في منح امتيازات لصالح قطاع الأعمال على حساب سكان المدينة.[21]

 

ويتجلى التعبير الاجتماعي المكاني لهذه العملية في أن بعض المناطق في وسط مدينة أكتوبر استطاعت الحفاظ على مستوى عالٍ من التنمية الاقتصادية، بينما تركت المناطق النائية، مثل بيت العيلة، محرومة تمامًا. وعلى الرغم من عدم وجود خدمات النقل العام حول المدينة، فخدمات أخرى مثل الأسواق والعيادات والمدارس والمطاعم تتركز في أحياء وسط المدينة، الأمر الذي أدى إلى ظهور شبكات نقل غير رسمية هناك. وقد نشأ هذا الاقتصاد السياسي للمكان والتهميش، في جزء منه، من خلال سياسات الحكومة النخبوية العمرانية، ولكن في الجزء الأكبر منه من خلال إلغاء القيود المفروضة على سوق الخدمات الاجتماعية في مصر. وكما كان الحال في وسط المدينة في القاهرة[22]، فإن تركَ مهمة توفير الخدمات الاجتماعية، مثل: التعليم والصحة والإسكان والنقل لقوى السوق، قد أدى إلى تعرض ضواحي المدينة الصحراوية لعملية إحلال طبقي. وبينما تعتمد كل من المناطق التي على الأطراف أو المناطق المركزية على الخدمات، فإن الأخيرة فقط هي التي استطاعت جذب الاستثمارات، حيث الربحية الأعلى.

سياسة النقل العمراني في مصر: ضعيفة ومتأخرة

في ضوء ما تقدم، يجدر بنا تناول سياسات النقل الحضري التي تتبعها مصر. في عام 2015، أعربت الحكومة المصرية عن “التزامها الكامل” بتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2015/ 2030.[23] وينص الهدف رقم 11 على أنه بحلول عام 2011 ينبغي على البلدان التي تتبنى جدول أعمال أهداف التنمية المستدامة أن تقوم بحلول عام  2030 بـ”توفير إمكانية وصول الجميع إلى نظم نقل آمنة وميسورة التكلفة ويسهل الوصول إليها ومستدامة، وتحسين السلامة على الطرق، ولا سيما من خلال توسيع نطاق النقل العام، مع إيلاء اهتمام خاص باحتياجات الأشخاص الذين يعيشون في ظل ظروف هشة والنساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن.”[24]

وعملًا بأجندة الأمم المتحدة لعام 2030، أطلقت مصر ما أسمته بـ“إستراتيجية التنمية المستدامة: رؤية مصر 2030”، التي تشمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية وبيئية للتنمية. وكل بعد يشمل على عدة محاور، أحدها هو التنمية العمرانية. وترتكز على أن الحكومة تهدف إلى مضاعفة عدد ركاب النقل العام بحلول عام 2030 من خلال زيادة طاقة استيعاب وجودة أنظمة التنقل القائمة.[25] وبالرغم من أن أهداف إستراتيجية التنمية المستدامة طموحة جدًّا وينبغي بالفعل السعي إلى تحقيقها، فإنه لا توجد للأسف أية مؤشرات على أن السياسة العمرانية المصرية الحالية ستسمح بتحقيق هذه الأهداف. فمن أصل 26 مليار جنيه كان من المقرر تخصيصها لقطاع النقل في ميزانية الدولة للعام المالي 2016/ 2017، حصل قطاع النقل العام علي 5.5 مليار جنيه فقط، أي 21% منها.[26] وبالرغم من أن هذا المبلغ يمثل زيادة بواقع 1.5 مليار جنيه على ميزانية العام المالي 2015/ 2016، فإنه ما زال منخفضًا جدًّا في مقابل الطلب.[27]

بالإضافة إلى ذلك، فإنه على الرغم من أن تشييد الخط الرابع للمترو سيبدأ قريبًا، كما تم إطلاق أسطول صغير من الـ”الباصات الذكية” حديثًا،[28] فإنه بالنسبة إلى مدينة كبيرة مثل القاهرة، فإن إمدادات النقل الجماعي غير كافية بالمرة، ولا سيما إذا قورنت بمثيلاتها من المدن حول العالم.[29]

مع عدم أخذ الازدحام المروري_وهي مشكلة ملحة ذات آثار سلبية اقتصادية وصحية_ على محمل الجد،[30] وعدم تطوير وسائل النقل بالشكل الكافي، فإنه ببساطة لا يمكن لمصر تحقيق أهداف التنمية العمرانية التي اقترحتها. بدلًا من إعطاء الأولوية لتشييد الطرق السريعة الجديدة وتطوير الطرق في المناطق النائية الراقية في القاهرة، والتي لا تلبي سوى احتياجات الطبقات الثرية، وبناء مدن صحراوية جديدة من الصفر، والمثال الرئيسي على ذلك هو العاصمة الإدارية الجديدة، فيجب على الحكومة أن تركز جهودها لتطوير البنية التحتية للنقل العام والتي يستخدمها ملايين المصريين يوميًّا.

للأسف توقعات المستقبل قاتمة. يرجع ذلك في جانب منه إلى ارتفاع عدد السيارات الخاصة، وفي جانب آخر إلى السياسة السلبية للحكومة في النقل العمراني. السيناريو الأكثر احتمالًا في المستقبل هو أن مشاكل النقل وحركة المرور في البلاد ستبقى دون معالجة إلى أن يصل الوضع إلى مرحلة أزمة شاملة. ما نحتاج إليه هو إصلاح شامل للطريقة التي تدير بها مصر مدنها، وهياكل حقيقية لحكم محلي ديموقراطي.[31] عندها فقط قد تبدأ السطات في منح هذه القضايا الاهتمام الذي تستحقه.

شكر وعرفان

كتابة: سمير شلبي

مراجعة: يحيى شوكت

مراجعة لغوية: أحمد الشبيني

ترجمة: لينا الورداني

الصورة الرئيسية: وسائل التنقل بمدينة السادس من أكتوبر، المصور: سمير شلبي

 

الملاحظات والمراجع

[1] هذه المقالة مبنية على عمل ميداني خاص برسالتي للماجستير بعنوان:

‘City Margins and Exclusionary Space in Contemporary Egypt: An Urban Ethnography of a Syrian Refugee Community in a Remote Low-Income Cairo Neighborhood,’

ويمكن الاطلاع عليها من خلال هذا الرابط. المصادر التي تم الاعتماد عليها للمقالة تضم نحو 30 مقابلة مع سكان المناطق المركزية والنائية لمدينة السادس من أكتوبر، الجيزة، بالإضافة إلى مقابلتين مع خبراء التخطيط العمراني في القاهرة، والتحليل الاثنوجرافي والصور الجوية.

[2] Sims, D. (2012) Understanding Cairo: The Logic of a City out of Control. Cairo: American University in Cairo Press. p. 228

[3] يتكون إقليم القاهرة الكبرى من محافظات: القاهرة، الجيزة، والقليوبية.

[4] حسابات الباحث بالاعتماد على التعداد العام للسكان لعام 2017، للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. إجمالي عدد السيارات الخاصة في محافظات إقليم القاهرة الكبرى (2,403,750) بالنسبة إلى عدد سكان الإقليم (23,799,114)

[5]الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. إحصاءات النقل العام للركاب داخل وخارج المدن 2015/2016 ص52

[6] “استراتيجية التنمية المستدامة: رؤية  مصر 2030، المحور العاشر: التنمية العمرانية.” ص205

[7] Wahdan, D. (2012) “Transport thugs: spatial marginalization in a Cairo suburb”. Bush, R., Ayeb, H. (eds.) Marginality and Exclusion in Egypt. Cairo: The American University in Cairo Press. p. 112.

[8] شوكت وهنداوى. “حقائق وأساطير التخطيط العمراني في مصر”. مرصد العمران، نوفمبر 2016

[9] World Bank. (2008) “Arab Republic of Egypt: Urban Sector Update.” p. 55-6.

[10] World Bank. (2008) “Arab Republic of Egypt: Urban Sector Update.”  p. 56.

[11] Sims, D. (2014) Egypt’s Desert Dreams: Development or Disaster? Cairo: American University in Cairo Press. pp. 128, 150.

[12] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. عدد السكان التقديري للأقسام والمراكز والشياخات والقرى في 1/7/2016. قسم أول، وثاني وثالث 6 أكتوبر، محافظة الجيزة.

[13]  د. أحمد يسري. أستاذ العمران والتخطيط الإقليمي. مقابلة شخصية. إبريل 2017.

[14] H.W. Richardson, (2013) The New Urban Economics: And Alternatives. Routledge. p. 86.

[15] “أحد محاور مشروع مبارك للإسكان القومي لمحدودي الدخل والذي “روعى فى تنفيذه توفير كل الخدمات الأساسية للمواطنين سواء مدارس أو أسواق تجارية وملاعب ومساحات خضراء “ حسب: “جولة جديدة لمبارك فى إطار المشروع القومى للإسكان”، أخبار مصر، 24.09.2007

[16] Smith, N. (1990) Uneven Development: Nature, Capital and the Production of Space (3rd ed.) Athens/London: The University of Georgia Press. p. 197, 203

[17] Harvey, D. (2003). The New Imperialism. Oxford: Oxford University Press. pp. 115-116

[18] Smith, N. (2008) Uneven Development. p. 4.

[19] Harvey, D. (2003). The New Imperialism. pp. 115-116.

[20] Wahdan, D. (2001) Building 6 October City: Local Politics and the Social Production of Uneven Spatial Development. Unpublished MA thesis. Department of Sociology, Anthropology and Psychology, American University in Cairo. pp. 70-72.

[21] Hobson, J. (1999) “New Towns, The Modernist Planning Project And Social Justice: The Cases Of Milton Keynes, UK And 6th October, Egypt”. Working Paper No. 108, Development Planning Unit, University College London; Ahmed Yousry, Professor of Urban & Regional Planning, Cairo University. Personal interview.

[22] أمنية خليل. “فضاءات القاهرة بين الارتقاء والعسكرة”، السفير العربي، 3/3/2016.

[23] Voluntary National Review 2016: Egypt. UN Sustainable Development Knowledge Platform. https://sustainabledevelopment.un.org/memberstates/egypt; UN Sustainable Development Goals 2015-2030. http://www.arabstates.undp.org/content/rbas/en/home/sustainable-development-goals.html

[24] ‘Goal 11: Make cities inclusive, safe, resilient and sustainable,’ UN Sustainable Development Goals. http://www.un.org/sustainabledevelopment/cities/

[25] “استراتيجية التنمية المستدامة: رؤية 2030، المحور العاشر: التنمية العمرانية.” ص205

[26] يحيى شوكت. “موازنة العمران 2016/ 2017 | الجزء الثاني: العدالة المكانية وقطاعات العمران”، مرصد العمران، يونيو 2017

[27] المرجع السابق

[28]تفاصيل تنفيذ الخط الرابع للمترو “الحدائق/ الجيزة”: غلق أماكن بـ”الهرم” وإجراء تحويلات” المصري اليوم، 7/1/2018 و: “خطوط الأتوبيس الذكي في القاهرة وأسعار تذاكر الميني باص والأتوبيس“، الوطن، 12/1/2018.

[29] World Bank Traffic Congestion Study: Executive Note (2014). p. 5. http://www.worldbank.org/content/dam/Worldbank/TWB-Executive-Note-Eng.pdf

[30] World Bank Traffic Congestion Study (2014); ” Road Accidents Cost Egypt LE 30.5 Billion in 2015: CAPMAS”. (August 22, 2016). https://egyptianstreets.com/2016/08/22/road-accidents-cost-egypt-LE-30-5-billion-in-2015-capmas/

[31] دور المجالس الشعبية المحلية، وهى مجالس منتخبة، استشاري فقط، حيث تتحكم المجالس المحلية التنفيذية والمحافظين، وهم معينون، في إدارة العمران. كما أن المجالس الشعبية منلة منذ عام 2011، ولم تجرى انتخابات عليها بعد. بالإضافة، فقانون الحكم المحلى رقم 59لسنة 1979 لا يطبق على المدن الجديدة، ولا يوجد بقانونها أي تمثيل منتخب للسكان. أنظر: “سياسة المدن الجديدة في مصر: أثر متواضع وعدالة غائبة”، تضامن، 06.05.2016

Stay Updated with our Newsletter

اشترك بالقائمة البريدية لتحصل على آخر التحديثات