- نُشرت في 08 مارس 2022
مقدمة
خلال ستة أسابيع، التقيتُ عددًا من النساء العازبات المستقلات بالسكن، أو من يتشاركن السكن مع نساء أخريات: من اخترن الخروج على الخيارَين التقليدييَن للسكن، بيت الوالدين أو بيت الزوجية. تسكن هؤلاء النساء أحياء مختلفة في القاهرة الكبرى، حيث تتبادلن تجاربهن في كسر هذا القالب، مع مواجهة التهديد بالطرد وعواقبه.[1]
تعرضت جميع النساء اللائي قابلتُهن تقريبًا لتهديدات بالطرد خلال فترات إيجارهن المتعددة لمساكن مختلفة خلال السنوات السبع الماضية. أفادت معظمهن أنهن تعرضن مرة واحدة على الأقل للطرد دون سابق إنذار خلال تجربتهن مع المساكن المستأجرة.
التهديد بالطرد ليس فقط حدثًا يتضمن ضررًا قانونيًّا ومجتمعيًّا بحد ذاته فحسب، بل يتضمن أيضًا سلسلة من الوقائع التي يجرها على المستأجرات. تمثل هذه الوقائع تحديًا لظروف السكن بأكملها، إذ تتضمن العيش تحت التهديد بالطرد كحدث وارد. نُحلل هنا قصص التهديد بالطرد كوضع متعدد الأوجه يتضمن التعرض لصور مختلفة من التزعزع وعدم استقرار السكن.
حلقات الإخلاء والسكن في مكان جديد
قد لا تمثِّل حوادث الطرد مجرد تهديد لحالة استقرار في سكن مستأجَر فحسب[2]، بل إن عواقبها على واقع النساء العنيف تصعِّب عليهن إعادة توطين أنفسهن في مساكن أكثر أمنًا.
“كنا مقررين نجدد المدة ومتفقين على ده، يوم ما كنا المفروض هنجدد، صاحب الشقة قال إنه عايز يزود الإيجار مرة ونص، قُلنا تمام اعطونا مهلة يومين نلم حاجتنا ونمشي، قال لأ، هتقعدوا يبقى تدفعوا في الليلة 500 جنيه، غير كده تلموا حاجتكوا وتمشوا حالًا، كان ساعتها في رمضان الساعة 2 بالليل فاتقسمنا اتنين بيلموا البيت واتنين بيدوروا على مكان تاني، وفعلًا كنا الساعة 6 الصبح بنسكن في مكان تاني.”
سارة، مقيمة في طُرة، القاهرة.
حقيقة أن المكان الجديد الذي انتقلن إليه، والذي كان الخيار الوحيد المتاح بسعر يناسبهن في غضون ساعات قليلة لتجنب قضاء الليل في الشارع، كان عبارة عن إستوديو من المفترض أن يسكنه شخصان كحد أقصى، دفعهن إلى حلقة أخرى من ظروف السكن المزدحم، وصعوبة تغيير هذا الوضع السكني بسرعة بسبب المقدم الكبير الذي دفعنه.
“طفش قفل الباب واحنا في الشغل، وغيَّر الكالون، وكلمنا يقولنا لموا هدومكم فورًا، أنا غيرت الكالون، ومكنش عايز يدينا التأمين حتَّى، عشان نعرف نشوف شقة مكانها في الوقت الضيق ده.”
منى، صقر قريش، القاهرة.
أوضحت منى أن الإجراء غير القانوني الذي اتخذه المالك بإنهاء عقد الإيجار دون إنذار مُسبَق، أو رد مبلغ المقدم، كان نتيجة قيام أحد الجيران بإخباره أن رجلًا قام بتوصيل إحدى زميلاتها إلى السكن. تركهم تدبير المال لدفع المقدم والسمسرة لشقة أخرى في وضع سكني غير آمن بسبب التزعزع المالي وقلة خيارات السكن.
حالة عتبية مستمرة
إن ترك بيوت الأسرة في الأقاليم والانتقال إلى العاصمة للعمل والسكن بشكل مستقل، قد يُعَرِض النساء لأن يجدن أنفسهن عالقات في حلقة متصلة من الانتقال بين المساكن المؤقتة، أو ما يسمى بالحالة العتبية[3]. قد تستمر الحالة العتبية تلك لسنوات، نتيجة العيش مع التهديدات المستمرة بالطرد. انتقلت سارة بين تسع مساكن خلال سنواتها الست في القاهرة، ولا ترى نفسها على أنها مستقرة في “بيت” حتى هذه اللحظة.
“ما اعتبرتش أي سكن اتنقلت له “بيت”، معظم متعلقاتي لسه في الشنط. كل مرة اتنقلت فيه الشقة جديدة، كنت استنى اللحظة اللي أحس فيها إني مستقرة هنا علشان أفضي كل الشنط، لكن ده ماحصلش أبدًا لحد دلوقت، دايمًا باحس اني مهددة بالطرد بعد أسابيع قليلة من السكن. باكافح علشان أهرب من ضغوط أسرتي إني أرجع لبيت العيلة واتجوز، لأنهم متابعين حالة عدم الاستقرار في السكن كل السنين دي.”
انتقلت منى بين أربعة مساكن منذ انتقالها من مدينتها قبل ثلاث سنوات. وصفت نفسها بالرحالة نظرًا لوضعها السكني.
“باقضي طول النهار في الشغل، من 7 الصبح لـ7 بليل، بما في ذلك وقت المواصلات، بعدها أشوف مين متاح من اصحابي ونقضي سوا 4-5 ساعات في الشوارع. فبارجع الشقة مرهقة ونعسانة، ويكون يومي خلص، وأكرر الدايرة دي كل يوم. بالطريقة دي [ضحكت]، باتجنب التعرض للمشاكل مع أصحاب السكن أو الجيران وأقلل من احتمالات الطرد. بصراحة، مش باتعامل مع الشقق اللي باسكنها على إنها بيت أبدًا، لدرجة إني عادة باجيب اللبس اللي لازمني كل أسبوع من بيت أهلي.”
تصبح حالة السكن المؤقت المستمرة هنا واضحة عند التعامل مع السكن على أنه مكان عابر. وبالتالي، صارت المستأجِرات من النساء عالقات في بيئة إيجارية يسودها التذبذب والمخاوف، تحد من مساحة التفاوض لديهن، وتعوق قدرتهن على تأمين منازل مناسبة بأسعار معقولة، تضمن السلامة والاستقلالية.
تأسيس بيت وعدم الاستقرار
في مجموعة العينة، كانت النساء المستقلات بالسكن على دراية تامة بأهمية الحصول على سكن مستقر وآمن خاص بهن والاحتفاظ به. إلا أن التهديدات بالطرد تعيق محاولاتهن تلك لتأسيس بيت[4]. بعد حلقات متكررة من الانتقال بين مساكن متعددة، استقرت دينا في شقتها الحالية، حيث تدفع ما يقرب من 50٪ من دخلها الشهري كإيجار، وقررت جعله بيتًا. بدأت في تأثيثه خطوة بخطوة بالتقسيط، وزخرفت الجدران وأعادت دهان أثاثه القديم.
“باحاول اعمل مساحة شخصية آمنة ومألوفة، زي أوضتي في بلدنا.”
ورغم أن اتفاق دينا مع مالك العقار، الموجود في منطقة الدقي بالجيزة، والذي تسكنه الطبقة الوسطى، يتضمن استقبال الزوار من الجنسين، فإن الجيران يراقبون باب منزلها عادةً للتأكد من عدم دخول أو خروج أي زائر ذكر منه بعد غروب الشمس.
“واحد من الجيران زعق مرة، وقال: “البيت ده مش كباريه” وهدد بطردي من بيتي. من ساعتها، عندي مخاوف متعلقة بزيارات الأصدقاء الذكور. مابقيتش بادعو أصدقائي رغم أن ده حقي واتفاقي من البداية. باستثمر الوقت والجهد والفلوس في تحويل الشقة دي لبيت، عنديّ عفش وأجهزة إلكترونية، وده يخلي طردي وإجباري على إني اتنقل لشقة تانية حاجة صعبة. وبصفتي مربية حيوانات، فكوني ألاقي شقة للإيجار أصعب أصلًا.”.
كما وضحت رواية دينا، فإن المخاوف بشأن تنفيذ الإجراءات القانونية ضد الحيازة غير الآمنة أو ضد تلقي تهديدات بالطرد تحبط محاولات النساء للانتفاع بأماكنهن الخاصة، بيوتهن.
شكر وعرفان
بقلم: ريم شريف
مراجعة: يحيى شوكت
ترجمه إلى العربية: بسمة ناجي
مراجعة لغوية: أحمد الشبيني
جرافيكس: نوران المرصفي
مراجع وملاحظات
[1] بناءً على منهج إثنوغرافي، جمعتُ روايات عن واقعهن السكني من خلال مقابلات متعمقة ذات بنية محددة إلى حدٍ ما، أجريت في منازلهن.
[2] للتعرف أكثر على قانون الإيجارات السائد في مصر، راجع: أحوال الإيجار في مصر 2017 – ضمان الحيازة، مرصد العمران، 19 فبراير ، 2018 : Egypt State of Rent 2017 – Tenure Security..
[3] يشير المصطلح”liminal” “العتبية” إلى حالة يكون فيها الأفراد في مرحلة انتقالية بين حالتين، إذ لا هم موجودون هنا ولا هناك. إنها حالة مُبهمة، من الوجود وعدم الوجود في الوقت ذاته. أصلها من الكلمة اللاتينية “limen” ، والتي تعني العتبة.
انظر فيكتور تورنر ، “Liminality and Communitas” ،The Ritual Process: Structure and Anti-Structure (مطبعة جامعة كورنيل ، 1969) ، 94-130.
[4]يعرّف ماكريجور وايز عملية تأسيس بيت بأنها “عملية ثقافية، إذ يصفها بأنها تأسيس للمعنى، وطرق تخصيص منطقة وتملُكها، ووضع الوسائل التي تجعل المرء على راحته في بيته. إنها عملية خلق مساحة مريحة. تسمية مساحة ما بأنها “بيت” في حد ذاتها تجعل هذه المساحة مخصصة اعتمادًا على الأعراف الثقافية والاجتماعية. يصبح البيت بعد ذلك مقرًا لعملية تجاوز الأمور السيئة، والاسترخاء، والاستقرار، وبعبارة أخرى: الصمود. “ج