ست عقود من تقنين المباني غير الرسمية 1956-2019

  • نُشرت في 10 أكتوبر 2019

ينشر مرصد العمران سلسلة من المقالات الخاصة بقانون التصالح في بعض مخالفات البناء، وهو تشريع جديد من المتوقع أن يكون له أثر كبير على عمران ومساكن مصر حال تطبيقه بعد دخوله حيز التنفيذ في شهر يونيو الماضي.

ولكن يعد الإصدار الأخير لقانون التصالح الإصدارَ التاسعَ منذ سنة 1956 لمثل هذه القوانين “المؤقتة” أو “الاستثنائية” التي تقوم بوقف العمل بالقوانين العمومية الخاصة بالبناء، وهو ليس الأول. ففي هذا المقال، نقوم بسرد التاريخ التشريعي لقوانين التصالح المختلفة وكيف تم تطبيقها.

مقدمة

سُنَّت المئات من التشريعات العمرانية خلال نصف القرن الماضي، والتي رسمت موادها الأرض والعمران وعملية البناء بشكل مُفصَّل، ونصَّت على عقوبات بالسجن وغرامات تم تغليظها عبر السنوات لتردع من يخالف هذه المثالية. ولكن ما يظهر لنا من العمران في مصر اليوم، من مظاهر الفوضى العمرانية، وغياب التنسيق في نسق البنايات أو ما بين المباني بعضها مع بعض، ما هو إلا نتاج لهذه القوانين المثالية، أو بالأصح، نتاج لتشريعات استثنت تطبيق هذه القوانين لعدم واقعيتها. ولم يكن هذا الاستثناء لمرة واحدة أو لمدة محدودة، ولكن يمكن اعتباره كاستمرارية أو ملحمة تشريعية امتدت إلى أكثر من نصف قرن. وهو الوضع الذي يمكن أن يعبر كمثال حي عن الحالة التشريعية المصرية في إحدى نماذجها التوصيفية.

1986-1956 تقنين التقسيمات المخالفة

في يوم 20 من يونيو عام 1956، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر القانون رقم 259، والذي نصَّ على وقف جميع البلاغات وقرارات الإزالة الصادرة بحق جميع المباني المقامة على تقسيمات مخالفة، أي أراضٍ زراعية يملكها أصحابها، قاموا بتقسيمها إلى قطع أراضٍ أصغر دون الحصول على الترخيص بذلك، وبيعها أو البناء عليها. كما نص القانون على توصيل المرافق العامة إلى المناطق دون مقابل، وتحصيل قيمة توصيلها من الشارع إلى الأراضي فقط من أصحاب الأراضي. تشرح لنا مذكرة القانون الإيضاحية – _والتي عادة يكتبها الوزير المختص_ أن الحكومة سمحت بالجهود الذاتية في إيجاد حل لأزمة المساكن، ولكنها رأت أن الأزمة قد انتهت، وحان الوقت لوقف أعمال البناء غير القانونية، وتقنين القائم منها.

شكل 1: صورة جوية لمنطقة إمبابة بالجيزة سنة 1957 تبين مشروع مساكن العمال الذي قامت بتنفيذه الحكومة بين عامي 1947 و1954، وتظهر إلى غربه وجنوبه التقاسيم والبناء غير الرسمي على الأرضي الزراعية، والتي في أعلب الظن انتفع أصحابها من قانون التقنين الذي صدر سنة 1956. (مصدر الصورة: المرجع رقم[1] )

لم تكن هذه المرة الأخيرة لإصدار مثل هذا القانون “المؤقت”، وعاد عبد الناصر ليصدره ثلاث مرات أخرى خلال رئاسته. رحل عبد الناصر، وأتى الرئيس أنور السادات، وسَنَّ قانونًا جديدًا للمباني ليواكب التطورات العمرانية، ويواجه اضمحلال الحالة الإنشائية لعديدٍ من المباني التي أصبحت آيلة إلى السقوط، وذلك حسب تقرير اللجنة المشتركة لمجلس الشعب.[2] ولكن سرعان ما أصدر السادات في سنة 1981 قانونًا مناقضًا لتقنين التقسيمات المخالفة،[3] على غرار قوانين فترة سالفة. تم تعديل قوانين البناء مرة أخرى في أوائل عهد الرئيس مبارك، بتغليظ عقوبات المخالفين وإضفاء المزيد من التفاصيل على عمليات البناء والتخطيط،[4] ولكنه أبطلها بين ليلة وضحاها بإصدار القوانين الاستثنائية ثلاث مرات، كان آخرها القانون رقم 99 لسنة 1986. في كل مرة، عمل القانون على تقنين أوضاع جميع المباني المخالفة القائمة حتى تاريخ إصداره، ثم نص على تطبيق القانون على كل ما يتم بناؤه من بعد إصداره، وهو ما لم يحدث خلال ثلاثين عامًا.

شكل 2: صورة جوية لمنطقة إمبابة سنة 1966، ويظهر التوسع الكبير للبناء غير الرسمي على الأراضي الزراعية منذ سنة 1957، والذي على إثره صدرت قوانين التقنين المتتالية. (مصدر الصورة: المرجع رقم 1)

1990 – 2011 كهرباء رسمية للعشوائيات

في سنة 1990 بدأ إصدار سلسلة من التشريعات اكتفت فقط بتوصيل الكهرباء إلى المباني المخالفة دون تقنين عملية البناء نفسها. فكان قرار محافظ القاهرة رقم 75 لسنة 1990 أول هذه القرارات الرسمية، كما كان أول تشريع يستخدم مصطلحًا أصبح هو الوصف الرسمي والدارج لمثل هذه المباني: “العشوائيات”. تلا هذا القرار بثلاث سنوات المشروع القومي لتطوير العشوائيات، والذي رصد 1221 منطقة على مستوى الجمهورية لإدخال الكهرباء ومياه الشرب والصرف الصحي لها بالإضافة إلى عدد من الخدمات الاجتماعية كالمدارس والوحدات الصحية، وإزالة 20 منطقة من بينها، تقرر أنها غير صالحة للتطوير.[5]

شكل 3: صورة جوية لمنطقة إمبابة سنة 1977، ونرى أنه لم تعد أراضي زراعية بعد غرب مساكن العمال، والذى ينتظر أصحاب المباني قانون التقنين الخامس والذي صدر سنة 1981. (مصدر الصورة: المرجع رقم 1)

على منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، ، ظهر تعريفان رسميان للبناء غير الرسمي. الأول هو ما قامت الحكومة بتعريفه بالعشوائيات: أي المباني المُقامة على الأراضي الزراعية، والتي عادةً يقوم الأهالي ببنائها _ولذا يسمونها ببُنَا الأهالي_ ولكنها ضمت أخيرًا مبانيَ شُيدت بغرض الاستثمار العقاري. والثاني ما أسمته الحكومة بالبناء المخالف: أي الأبراج السكنية بالمناطق الحضرية داخل المدن، والتي عادةً كانت تُبنَى على أراضٍ مقسمة رسميًّا ولكنها خالفت قيود الارتفاع والمساحة المسموح بالبناء عليها. هذا استنتاج مبني على تفرقة الحكومة بينهما بقرار رئاسة الوزراء رقم 129 بتاريخ 26 أكتوبر 2005 الذي سمح للشركة القابضة لكهرباء مصر بتوصيل التيار الكهربائي بشكل رسمي إلى العشوائيات، بالإضافة إلى قرار مجلس المحافظين بتاريخ 1 نوفمبر 2005 بتوصيل الكهرباء إلى المباني المخالفة.[6] كانت شركات الكهرباء قد تلقت أكثر من نصف مليون طلب توصيل للمباني المخالفة حين ذاك، وبناءً على هذه الموافقات الرسمية، تم توصيل التيار إلى نحو 900 ألف عقار مخالف وعقار بالعشوائيات حتى عام 2011.[7]   هذا رغم إصدار مبارك قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 والذي منع بشكل قاطع توصيل المرافق إلى المباني التي تم بنائها بدون رخصة.[8]

2011 – 2019 كهرباء شبه رسمية

بعد ثورة يناير 2011، وصل إلى وزارة الكهرباء أكثر من مليون طلب من أصحاب العقارات المخالفة لتوصيل التيار. في خلال سنة، كانت الوزارة قد أوصلت 880 ألف عقار منهم بالتيار،[9] ولكن استخدمت الوزارة طريقة جديدة لم تستخدم من قبل. فبدلًا من العدادات الرسمية التي يربطها تعاقد يحمل اسم صاحب العقار، قامت الوزارة بتوصيل عدادات أخرى سُميت بالـ”كودية” نظرًا إلى حَملِها فقط رقمًا كوديًّا للعقار دون اسم المالك لعدم ربطه بحيازة العقار، وتُرِك الباب مفتوحًا للإزالة إذا رغبت الجهات الإدارية في ذلك.

في 2016 صدرت قرارات وزارية بتحديد قيم تركيب العدادات وضوابطها، كان أهمها أن العداد يتم تركيبه بصفة مؤقتة حتى تقنين وضع العقار _وقد بدأت مناقشات برلمانية حول هذه النقطة سيتم تناولها لاحقًا_ أو صدور حكم نهائي بإزالته.[10] كما تم تحديد موعد تقديم طلبات العدادات حتى يونيو 2018 ووصل إجمالي العدادات الكودية التي تم توصيلها إلى 8,1 مليون عداد سنة 2018.[11] كما تم مد العمل بالعدادات الكودية فيما بعد إلى يناير 2019،[12] ومن المرجح أن يرتفع إجمالي عدد العقارات المستفيدة من هذه العدادات.

تتمة

في إبريل الماضي أصدر مجلس الشعب القانون رقم 17 لسنة 2019 “في شأن التصالح في بعض مخالفات البناء وتقنين أوضاعها”، والذي يعتبر الإصدار التاسع له منذ سنة 1956. وكما يظهر لنا التاريخ، فلن يكون هذا الإصدار الأخير له.

شكر وعرفان

كتابة: يحيى شوكت

مراجعة لغوية: أحمد الشبيني

الصورة الرئيسة: منطقة إمبابة بالجيزة سنة 1966. أنظر المرجع رقم 1.

 

المراجع والملاحظات

 

 

[1] Reinhard Goethert and Mohamed el-Sioufi, “Growth of an Informal Housing Area Over a Thirty Year Period – Case Study: Imbaba Sector,” in The Housing and Construction Industry in Egypt: Interim Report Working Papers 1979/80, by Joint Research Team on the Housing and Construction Industry Cairo University/MIT (USAID, 1980), 97–125, http://pdf.usaid.gov/pdf_docs/PNAAM424.pdf

[2]  قانون تنظيم أعمال البناء رقم 106 لسنة 1976.

[3] القانون رقم 135 لسنة 1981.

[4]  القوانين رقم 2 لسنة 1982 و30 لسنة 1983 بتعديل قانون البناء، وقانون التخطيط العمراني رقم 3 لسنة 1982.

[5] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, “دراسة المناطق العشوائية في مصر”  2008.

 [6] وزارة الكهرباء والطاقة, “الشركة القابضة لكهرباء مصر – التقرير السنوي 2006/2007″، 2007, http://moee.gov.eg/test_new/report.aspx ص38

[7]  وزارة الكهرباء والطاقة, “الشركة القابضة لكهرباء مصر – التقرير السنوي 2010/2011″، 2011, http://moee.gov.eg/test_new/report.aspx ص40

[8] مادة 62

[9]  وزارة الكهرباء والطاقة, “الشركة القابضة لكهرباء مصر – التقرير السنوي 2011/2012″، 2012, http://moee.gov.eg/test_new/report.aspx ص 38

[10]  قرار رئيس الوزراء رقم 886 لسنة 2016، وقرار وزير الكهرباء والطاقة المتجددة رقم 254 لسنة 2016.

[11]  وزارة الكهرباء والطاقة, “الشركة القابضة لكهرباء مصر – التقرير السنوي 2017/2018″، 2018, http://moee.gov.eg/test_new/report.aspx ص66

 [12] المصري اليوم, “«الكهرباء» تمد مهلة استكمال تركيب العدادات الكودية حتى نهاية فبراير”،3 يناير , 2019, https://www.almasryalyoum.com/news/details/1356591

Stay Updated with our Newsletter

اشترك بالقائمة البريدية لتحصل على آخر التحديثات