من يملك القاهرة؟ | مقدمة الدراسة

  • نُشرت في 30 أغسطس 2022

في مصر، لدينا مَثل يقول: “الأرض لا بتاكل ولا بتشرب”، فرضية بسيطة: إذا استثمرتَ في الأرض، فلن تكلفك ملكيتها شيئًا، مقارنة بالماشية أو الزراعة أو أي عمل آخر يتطلب رعاية مستمرة واستثمارًا وجهدًا حتى يؤتي ثماره، كما أن قيمة الأرض تتصاعد دون جهد من صاحبها، دون دفع ضرائب، ودون أي تفاصيل إجرائية أو أعمال فنية أو ميكانيكية تقلق بشأنها. تُشكل هذه العبارة القصيرة إحدى أساسيات فلسفة استثمارٍ يتبنَّاها الجميع، سواء كانوا مضاربين بسطاء، أو المستثمرين من االمليارديرات، أو الحكومات. لاحظ المطورون العقاريون منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، سهولة البناء على الأراضي الصحراوية الشاسعة والتربح منها، بالمقارنة بالبناء على أراضٍ صغيرة داخل المدن المكتظة. سريعًا ما لبَّت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وهي الجهة المسؤولة عن بناء المدن الجديدة حول القاهرة، هذا النداء، والتي كانت مهتمة حتى ذلك الحين بتوفير مساكن للطبقة العاملة، وقطع أراضٍ صغيرة للطبقة المتوسطة. خلال عقد من  الزمن، أصبحت المجتمعات المسورة الخاصة بالطبقة فوق المتوسطة، والتي تحتوى على فيلات مترامية بين ملاعب الجولف والحدائق، ظاهرة أساسية في أغلب المدن الجديدة.

 

أدت هذه الظاهرة إلى تضخم الاستثمار العقاري كنشاط اقتصادي مؤسَّس على بناء المساكن والمباني الإدارية والتجارية على الأراضي العمرانية، حتى أصبح يساهم بنسبة 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، ما يجعله في المرتبة الرابعة، وبات ينافس نشاطًا أساسيًّا وتاريخيًّا كالزراعة (المرتبة الثالثة)، وتفوق على الصناعات التقليدية مثل التعدين والتشييد (الشكل1). كوَّن العقار سلعة غير قابلة للتداول non-tradable asset، فلا يمكن استيرادها من الخارج على عكس السلع الأخرى عالية القيمة المضافة التي يصعب على دول الجنوب المنافسة فيها مع الموردين المستقرين في دول الشمال، وبات أحد أهم أهداف الاستثمار المحلي فيه. مصر أحد الدول التي تمثل نموذجًا لهذه الظاهرة الاقتصادية. فقد شهدت خروج عدد كبير من كبار المستثمرين في صناعات أساسية كالإلكترونيات، والنسيج، والسيارات، والمواد الغذائية، بعد توقيع اتفاقيات تخفيض الجمارك على الصادرات، مثل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة والتركيز– المعروفة بالجات، في تسعينيات القرن العشرين، وتم تحويل أغلبية استثماراتهم إلى النشاط العقاري بشكل واضح.

ولم تقف شهوة الاستثمار في العقارات عند المستثمرين المحليين، فهناك مؤشر على نجاح القطاع العقاري في جذب الاستثمارات الأجنبية، ويحتل الاستثمار العقاري نفس المرتبة في سوق الأوراق المالية في مصر، حيث يبلغ حجم شركات الاستثمار العقاري 11٪ من رأس مال البورصة المصرية، كما أنها تأتي في المرتبة الرابعة بعد الأنشطة البنكية، والموارد الأساسية، والاتصالات والإعلام وتكنولوجيا المعلومات.[1]

الشكل1: حصة الأنشطة الاقتصادية من الناتج المحلي الإجمالي لمصر في 2020/2021

المصدر: وزارة التخطيط والتنمية الافتصادية.

 

ارتفاع شأن التطوير العقاري كصناعة رائدة، لم يأتِ دون قدر مصاحب من الإثارة والمساءلة. فبحلول سنة 2010، وجدت اثنتان من كبرى شركات التطوير العقاري أنفسهما بين قضايا ديون، وتخصيص أراضٍ.[2] زادت وتيرة ملاحقة شركات التطوير العقاري في أعقاب ثورة 2011، وتزايد الجدل والقضايا حول تخصيص أراضي الدولة لعدد كبير من كبرى الشركات، خاصة التي كان لها صلة بنظام الرئيس الأسبق، حسني مبارك.[3] في السنوات القليلة الماضية، تحول غضب الرأي العام إلى عدد من الإعلانات العقارية التي فسرها جمهور واسع من المشاهدين بأنها تحتوى على تمييز طبقي.[4]

غضب الرأي العام ضد شركات التطوير العقاري، لم يأتِ دون سبب أعمق. في عام 2016، وجدنا أن متوسط ​​سعر المسكن صار بعيدًا عن متناول نصف المصريين[5] نتيجة للوتيرة المرتفعة لعملية تسليع الأرض. وبينما تعمل الحكومة على استقرار ودعم أسعار المواد الغذائية، وتوفير التعليم والرعاية الصحية لقطاعات واسعة من السكان، فإن برنامج الإسكان الاجتماعي بالكاد يتيح منازل لأقل من نصف ما تحتاجه الأسر الفقيرة ومحدودي الدخل المكونة سنويًّا.[6] كما رصدت الدراسات الدولية صلة طردية مباشرة بين تسليع السكن وعدم القدرة على تحمل تكلفته.[7]

نظرًا إلى كون الأراضي الشاغرة غير المستغلة موردًا معروفًا بوفرته في مصر، فلماذا أصبحت الأراضي العمرانية، ومعها السكن ميسور التكلفة كخدمة، وكحق، بعيدًا عن متناول الكثيرين؟ يهدف هذا البحث إلى الإجابة على جزء من هذا التساؤل من خلال التركيز على قطاع العقارات في القاهرة.

 

الشفافية وقطاع العقارات

بالنظر إلى الحجم والأهمية الاقتصادية لقطاع العقارات في مصر، فإنه يعتبر غير مدروس أكاديميًّا بالشكل الكافي، كما لا يعرف عامة الناس عنه سوى القليل. حُرِرَت الكثير من الكتب والدراسات حول القاهرة، أو الإسكان، أو الاقتصاد، لكنها إما قديمة وإما لا تتناول النشاط العقاري بعمق.  على سبيل المقارنة، درس العديد من الباحثين أثر إلغاء سياسات الإصلاح الزراعي التي مُرِّرَت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين من قبل دولة ناصر التنموية، بالإضافة إلى وجود تاريخ بحثي طويل من تحليل لأنماط الملكية في الأرض الزراعية. هذا التركيز البحثي على الأرض الزراعية لم يضاهِهِ تركيز مماثل على التراكم جراء خصخصة الأراضي الصحراوية والساحلية برغم نطاقها الواسع وتأثيرها الكبير.

قد تساعدنا دراسة متخصصة في القطاع العقاري في فهم تأثيره على حياتنا اليومية بشكل أفضل، خاصة في اقتصاد يقل الاعتماد فيه على الزراعة بسبب حصة مصر المحدودة من المياه وربحيتها المتناقصة، وبسبب الزيادة السكانية الكبيرة، فمعظم إمكانات النمو المعتمدة على الأرض كمورد طبيعي أصبحت موجودة في قطاع السكن والتشييد. في ظل ضعف قدرة الاقتصاد المصري التنافسية في السلع والخدمات القابلة للتداول، يصبح الاستثمار والمضاربة في الأراضي والعقارات ذا أهمية إضافية كسمة مميزة للاقتصاديات الطرفية أو ما يسمى بالاقتصاديات الناشئة. لكل هذه الأسباب، تكمن أنماط ملكية الأراضي السكنية في القلب من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشهدها مصر في العقدين الأخيرين مثلما كانت السيطرة على الأراضي الزراعية في القلب من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على مدار قرون قبل ذلك.

من خلال رسم خرائط لحيازات الأراضي، يمكننا على سبيل المثال استكشاف ما إذا كان هناك احتكار وسلوك غير تنافسي للأراضي، وهي ممارسات تؤثر سلبًا على أسعار السكن. بتتبع ملكية الشركات وضمن ذلك الأراضي، يمكننا معرفة من هم كبار الملاك، وما التأثير الذي قد يمارسونه على سياسات العمران والإسكان. من خلال توفير المزيد من الشفافية لهذا القطاع الحيوي، يمكن للحكومة أن تنظمه بشكل أفضل، وتتكون لدى السكان معرفة أعمق بمن يبني مساكنهم.

 

نظرة عامة على الدراسة

“من يملك القاهرة؟” دراسة تتألف من أربعة أقسام مترابطة، مُقسمة على هذا النحو لتسهيل استيعاب القراء لها. في القسم الأول: شركات دراسة الحالة، يُقدَّم من خلال هذا القسم صحائف بيانات مفصلة للشركات العشر المُدرجة في هذه الدراسة. يرسم هذا القسم خرائط ملكية كل شركة في إقليم القاهرة الكبرى، أو القاهرة اختصارًا، مع الوقوف على أكثر من 140 مشروعًا وقطعة أرض تمتلكها كل شركة حتى 31 ديسمبر 2021. تحلل صحائف البيانات أيضًا ملكيات الأسهم في كل شركة، وتُظهِر المالكين المباشرين وغير المباشرين على حدٍّ سواء، وتتتبع بقدر الإمكان نحو مئة من المستفيدين الحقيقيين: أي الأفراد. القسم الثاني: تحليل الملكيات، يتعمق في دراسة بيانات ملكية الشركات بطريقة مقارنة، وتجميع بيانات المساهمة والملكية عبر جميع الشركات العشر لضمان نظرة عامة شاملة عن قطاع العقارات تُظهر كبار مالكي الأراضي، وأنماطهم، وكذلك جنسياتهم، بالإضافة إلى تقديم منهجية مفصلة عن الأساليب المتبعة. في القسم الثالث: رصيد الأراضي (يصدر في الأسبوع الثالث من سبتمبر)، نقدم موجزًا مقارنًا بين رصيد أراضي شركات الدراسة، خاصة بالمقارنة بحجم الأراضي بالقاهرة، مع تحليل زمني لعمليات الاستحواذ عليها. أما القسم الرابع: التوصيات (يصدر في الأسبوع الأخير من سبتمبر)، استخلاص الدروس المستفادة من القسمين السابقين لتقديم إرشادات إلى الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، حول كيفية إكساب قطاع العقارات مزيدًا من الشفافية، فضلًا عن إدارته بشكل أفضل لسد الاحتياج لتوفير سكن ميسور التكلفة. يوجد أيضًا أقسام المنهجية  وأوراق الخلفية، بالإضافة إلى بعض البيانات.

شكر وعرفان

كتابة: يحيى شوكت

مراجع المنهجية: أسامة دياب

ترجمة: بسمة ناجي

مراجعة لغوية: أحمد الشبيني

جرافيكس: فادي عبدالنور – ستوديو ساب تايب

الصورة الرئيسية الأصلية: أليكس ديول

 

المراجع والملاحظات

 

[1]البورصة المصرية،“التقرير السنوي 2021: عام إدارة التعافي” (البورصة المصرية،2022)،59.

[2]نجلاء كامل, “البنك الأهلى يبيع 4 قطع من أراضى دريم لاند فى إطار التسوية مع بهجت”, اليوم السابع, 20 أكتوبر، 2010; المصري اليوم, “حكم نهائى ببطلان عقد بيع أرض «مدينتى»”, 15 سبتمبر، 2010.

[3]راجع شركات سوديك، وإعمار، وأوراسكوم للتنمية، وبالم هيلز، في هذه الدراسة.

[4]فيتو, “إعلان بيفرلي هيلز يثير غضب رواد التواصل الاجتماعي”, فيتو, 31 ديسمبر، 2016,;

توبة خليفي, “مدينتي نموذجا: لماذا يلجأ مصريون للعيش في مجمعات مغلقة؟“, BBC News عربي, 10 مايو، 2020.

[5] 10 طوبة، “المؤشر العام للحرمان العمراني”، سبتمبر 2016، 2. القدرة على تحمل التكاليف.

[6] يحيى شوكت “مليون وحدة لمن؟ ست حقائق عن مشروع الإسكان الاجتماعي” ،مرصد العمران، 28 مايو2018،.

[7]“Who owns the city? Exploratory research activity on the financialisation of housing in EU cities” (Joint Research Centre (JRC), 2020), 81.

 

Stay Updated with our Newsletter

اشترك بالقائمة البريدية لتحصل على آخر التحديثات