- نُشرت في 30 أكتوبر 2019
ينشر مرصد العمران سلسلة من المقالات الخاصة بقانون التصالح في بعض مخالفات البناء، وهو تشريع جديد من المتوقع أن يكون له أثر كبير على عمران ومساكن مصر حال تطبيقه بعد دخوله حيز التنفيذ في شهر يونيو الماضي.
يناقش مقال “من يبني الإسكان في مصر؟” حقائق حجم البناء غير الرسمي، والذي من المفترض أن يتم تقنينه حسب القانون، وأهم الأسباب وراء هذه الظاهرة الممتدة لأكثر من ستة عقود.
إضغط هنا لقراءة المقال الاحدث 2021
مقدمة
يتم بناء نحو مليون وحدة سكنية في مصر كل عام، وهو عدد ضخم مقارنة بمعدل الزيادة السكانية، ومنذ خمسينيات القرن الماضي تتشارك ثلاثة قطاعات رئيسية في بناء المساكن. القطاع الخاص غير الرسمي، والذي يقوم بالبناء بدون ترخيص، والقطاع الخاص الرسمي، أي البناء بعد إصدار رخصة، والقطاع العام الذي يمثله عدة هيئات وأجهزة وشركات تابعة لجهات حكومية.
فيتقدم هذه القطاعات الثلاثة القطاع الخاص غير الرسمي، ويضم قطاعًا واسعًا من فقراء وأغنياء مصر، ما بين أهالٍ ومستثمرين، الصغار منهم والكبار. فخلال العقد الماضي مثَّل هذا القطاع 77% من الوحدات السكنية التي تم بناؤها، أي الأغلبية العظمى (شكل 1). في المركز الثاني يأتي القطاع الخاص الرسمي بحصة تمثل 15% من البناء، ويضم الأفراد حتى كبرى شركات التطوير العقاري. حاز القطاع العام على المركز الثالث بنحو 8% من إنتاج المساكن، والتي من بينها الإسكان الاجتماعي المدعَّم، بالإضافة إلى آلاف الوحدات التابعة لمشاريع استثمارية.
شكل 1
كيف نقيس حجم الإسكان وأغلبيته غير رسمي؟
فيما بين ما يُحصِي بشكل سنوي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعداد الوحدات السكنية التي يقوم ببنائها القطاع الخاص الرسمي والقطاع العام،[1] لا توجد بيانات رسمية عن القطاع الخاص غير الرسمي، خاصة بيانات واضحة يمكن مقارنتها ببيانات القطاعين الآخرين. فيقدر جهاز التفتيش الفني على أعمال البناء، التابع لوزارة الإسكان، أعداد المباني التي تم بناؤها بطريقة غير رسمية ومخالفة للقانون بنحو ثلاثة ملايين عقار منذ سنة 2000،[2] وهو ما يمثل عددًا غير واضح من الوحدات السكنية، ولكنه يقدر بعدة ملايين، حيث يحتوي كل عقار على ثلاث أو أربع وحدات سكنية على أقل تقدير. واستندت هذه البيانات إلى تجميع المحاضر التي تم تحريرها لعمليات البناء المخالفة من قبل السلطات الإدارية، ولكنها لعقارات وليس لوحدات، وربما عدد منها للعقار نفسه، كما أنها لفترة زمنية طويلة وغير متوفرة على مستوى سنوي.
ولكن توجد بيانات أخرى يمكن استخدامها لمعرفة حجم القطاع الخاص غير الرسمي حسب منهجية استخدمت من قبل في مؤشر أمن الحيازة الخاص بمؤشرات الحرمان العمراني. فوزارة الكهرباء والطاقة المتجددة تعلن إحصاءات المشتركين للأغراض المنزلية كل عام،[3] ومن خلال مقارنة زيادة أعداد المشتركين من عام إلى آخر، يمكن إظهار إجمالي أعداد الوحدات السكنية الجديدة التي تم إضافتها. مع خصم عدد الوحدات التى قام ببنائها القطاع الخاص الرسمي والقطاع العام من هذه الأعداد، يتبقى ما تم بناؤه من خلال القطاع الخاص غير الرسمي.
حجم البناء حسب القطاع 2008 > 2018
خلال السنوات الإحدى عشرة بين سنة 2008/2007 وسنة 2018/2017 التي تسنى جمع بياناتهم، تم بناء 10.7 مليون وحدة منهم 8.2 مليون وحدة من قبل القطاع الخاص غير الرسمي و1.5 مليون وحدة من قبل القطاع الخاص الرسمي، و858 ألف وحدة قامت ببنائها الحكومة (شكل 2).[4]
شكل 2
إذا قمنا بالتركيز على النسب فقط، فيتضح لنا أن الأغلبية العظمى من عملية الإسكان يقوم بها القطاع الخاص غير الرسمي وبشكل منتظم حيث لم ينخفض عن ثلثي البناء، وهذا سنة 2015/2014، واستحوذ على 90% من الوحدات سنة 2013/2012 (شكل 3). في المقابل تراوح إنتاج القطاع الخاص الرسمي إلى ما بين 6% فقط من الوحدات، و20%، بتوسط 15% خلال الفترة المبحوثة. مثَّل القطاع العام أقل إنتاج وتراوح بين 2.3% و21% بمتوسط 8%.
شكل 3
هل الثورة سبب تفاقم القطاع الخاص غير الرسمي؟
ظاهرة البناء غير الرسمي موجودة على مدار الستين عام الماضية، وليست جديدة. وتظهر هذه البيانات تذبذب محدود لهذا القطاع خلال العقد الماضي. فخلال السنوات السنوات الثلاثة حتى ثورة يناير 2011، 2008/2007 حتى 2010/2009، قام القطاع الخاص غير الرسمي ببناء 2 مليون وحدة (شكل 2)، مثلت 67% من الوحدات السكنية (شكل 3)، وهى نسبة كبيرة من الوحدات. أما في الثلاث سنوات التالية للثورة، 2011/2012 حتى 2013/2014، تم بناء 3.2 مليون وحدة من قبل القطاع الخاص غير الرسمي (شكل 2)، مثلت 81% من الوحدات (شكل 3)، والذي يعد طفرة. ولكن في فترة ما بعد الثورة انخفض انتاج القطاع الرسمي، سواء الخاص أو العام، بنحو 22%، مما زاد من حصة القطاع الخاص غير الرسمي. وكما يوضح الرسم البياني أن أعداد البناء غير الرسمي زادت بشكل ملحوظ سنة 2011/2012 عما كانت عليه في السنة التي تلت الثورة، ثم عاودت الانخفاض إلى مستويات قريبة من مستوى ما قبل الثورة. ولكن قد يرجع الارتفاع الملحوظ إلى استجابة وزارة الكهرباء إلى عدد أكبر من طلبات إمداد الوحدات غير الرسمية بالكهرباء،[5] وليس بالضروري يعكس عملية البناء في حد ذاتها على مستوى سنوي.
ما أسباب البناء غير الرسمي؟
توجد أسباب عدة وراء تصنيف العقارات على أنها غير رسمية أو مخالفة، لا تسمح هذه المساحة بسردها، ولكن يمكن تلخيصها في عدة نقاط:
تجاهل رسمي للبناء الذاتي
رغم تعوُّد المصريين على بناء مساكنهم بأنفسهم فيما يسمى بالإنتاج الاجتماعي للمسكن، خاصة في الريف والذي يسكنه أكثر من نصف السكان (حسب تعداد 2017 كان 65% من المصريين يملكون مساكن قاموا ببنائها بأنفسهم[6]) لا تشجع الحكومة هذا النمط من البناء. فتعد الأراضي المخصصة والمقسمة رسميًّا للبناء نادرة، حيث معدَّل تخصيص الحكومة لأراضٍ رسمية في المدن الجديدة يقل بنحو الربع عن معدَّل تبوير الأراضي الزراعية.[7] وكما أظهر مرصد العمران من قبل، فأقل أراضي المجتمعات العمرانية الجديدة تكلفة، تظل خارج إمكانيات الفقراء ومحدودي الدخل.[8]
عدم واقعية قوانين البناء
رغم سَن الدولة المئات من التشريعات العمرانية خلال نصف القرن الماضي، والتي رسمت موادها الأرض والعمران وعملية البناء بشكل مُفصَّل، ونصَّت على عقوبات بالسجن وغرامات تم تغليظها عبر السنوات لتردع من يخالف هذه المثالية، فقد قامت الدولة أيضًا بوقف العمل بها من خلال قوانين استثنائية للتصالح مع ما رصدته من مخالفات للقوانين الأساسية، والتي كانت غير واقعية التطبيق.[9] حتى من رغبوا في البناء حسب قوانين البناء واستخراج التراخيص اللازمة وجدوا أنفسهم أمام رحلة غير مضمونة العواقب من حيث المُنتَج النهائي أو التكاليف المادية والمعنوية.[10] وهى عملية أدت إلى نشوء بيئة خصبة للفساد في المحليات عن طريق شبكات من العلاقات التي تتعامل مع الملاك المتقدمين للحصول على تراخيص في مقابل أتعاب تدفع بعيدًا عن القانون من أجل تسهيل الإجراءات.
فساد منظومة تخصيص أراضي الدولة
تفاقمت خلال العقدين الأخيرين ظاهرة تغيير نشاط مساحات من الأراضي التي خُصصت من الأصل للاستصلاح على جانبي عدد من الطرق الصحراوية، أشهرها طريقا القاهرة الإسكندرية والقاهرة الإسماعيلية الصحراويان. بينما سمحت قرارات التخصيص الأصلية بالبناء على 2.5%من مساحة الأرض كحد أقصى للإنشاءات الخاصة بنشاط الزراعة، والتي تم زيادتها في بعض الأحوال إلى 7%، نظرًا إلى قرب هذه الأراضي من المدينة، وعدم جدوى زراعتها في بعض الأحيان، وانخفاض سعرها بشكل كبير بالمقارنة بالأراضي المخصصة للبناء في المدن الجديدة، تحول العديد منها إلى منتجعات من الفيلات الفارهة (شكل 4). البعض منها ظل محترمًا النسبة البنائية، ولكن دون زراعة جادة، والبعض الآخر تعدى هذه النسبة بأضعاف. رصدت الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية _الجهة التابعة لوزارة الزراعة والتي قامت بتخصيص أراضي الاستصلاح، 67 مليار جنيه من مخالفات تغيير النشاط على أراضيها، ولكن حتى عام 2016 كانت قامت بتحصيل فقط 204 ملايين جنيه منهم لامتناع كبار المُلاك عن تسديد الغرامات،[11] أو بيع الأراضي لمُلاك آخرين اعترضوا على تسديد مخالفات عن أعمال لم يقوموا بها.
شكل 4: صورة جوية لمنتجع تم بناؤه بطريقة غير رسمية على أراضٍ خصصت للاستصلاح الزراعي (الفيلات وحمامات السباحة في الأعلى) مقابل لأراضٍ تم استصلاحها بالفعل (الأسفل) على طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي. جوجل إرث، نوفمبر 2018.
ما مستقبل البناء غير الرسمي؟
تم نشر الإصدار التاسع من قانون التصالح مع بعض مخالفات البناء منذ أشهر لتقنين العقارات غير الرسمية، ونص القانون على تقنين فقط المباني التي تم بنائها قبل إصداره، في أبريل 2019، فيم سيطبق قانون البناء على أي مخالفات أخرى، أي إزالتها. ولكن القانون لم يتطرق إلى أسباب البناء غير الرسمي، وكما يتضح من البيانات، يبقى من الصعب التصور أن هذه الظاهرة ستنتهي قريبًا.
شكر وعرفان
كتابة: يحيى شوكت
مراجعة لغوية: أحمد الشبيني
الصورة الرئيسة: حى البساتين، القاهرة. مرصد العمران
المراجع والملاحظات
[1] يصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء “كتاب الإحصاء السنوي” والذي يضم “باب الإسكان” به بيانات القطاع العام من خلال وزارة الإسكان، والقطاع الخاص الرسمي من خلال تراخيص البناء. تم الاستناد إلى هذه التقارير للسنوات من 2008 حتى 2015. كما بدأ الجهاز أخيرًا في إصدار تقرير سنوي أكثر تفصيلًا عن الإسكان وهو “الإسكان في مصر”، والذي تم الرجوع إليه لبيانات سنوات 2015/2016 حتى 2017/2018.
[2] أخبار اليوم, “فيديو| تفتيش (الإسكان): 2 مليون و900 ألف عقار مخالف في مصر”, 25 فبراير، 2018, https://archive.fo/X1SFJ
[3] وزارة الكهرباء والطاقة، الشركة القابضة لكهرباء مصر – التقرير السنوي 2007/2008 حتى 2017/2018. http://moee.gov.eg/test_new/report.aspx. تم حساب أعداد المشتركين حسب تصنيف “منازل” بالإضافة إلى ضم نسبة موزونة من خانات “مغلق ومؤجل” و”أو مقروء بصفر” نظرًا إلى ارتفاع أعدادهم. هذه البيانات تمثل جميع المشتركين بطريقة رسمية أو شبه رسمية من خلال العدادات الكودية، ولا تشمل أعداد الوحدات المتصلة من خلال ما يسمى بـ”الممارسة” فهى مضمومة إلى خانة “أخرى” مع عدد من الاستخدامات غير المنزلية ولذا تم استبعادها.
[4] ملحوظة: كانت بيانات وزارة الكهرباء لسنة 2016/2017 متناقضة مع تقرير السنة السابقة له، لذا تم استبعادها ولم يحسب إجمالي لهذه السنة.
[5] تشير التقارير إلى قبول شركات الكهرباء عددًا من طلبات التوصيل، والتي يتم بحثها ثم قبول عدد منها، ثم توصيل التيار إلى عدد من المقبولين كل عام. في سنة 2011/2012 وصلت عدد الطلبات المقبولة إلى مليون طلب، وما تم توصيله 880 ألفًا. وزارة الكهرباء والطاقة, (الشركة القابضة لكهرباء مصر – التقرير السنوي 2011/2012), 2012, http://moee.gov.eg/test_new/report.aspx. ص 38.
[6] صنف تعداد السكان والظروف السكنية بين تعدادي 1986 و2006 المساكن المملوكة لأصحابها على ثلاث أنماط: تمليك، أي تم شراؤه، وملك، أي تم بناؤه أو ورثه، وهبة، أي أن الأب في الأغلب أهداه إلى أحد أبنائه. ولكن في تعداد 2017 تم ضم نمطي الملك والتمليك، فتم التوصل إلى هذا البيان عن طريق الإسقاط الإحصائي من التعدادات السالفة. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, “التعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت 2017” (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, 2017), http://www.capmas.gov.eg/Pages/ShowPDF.aspx?page_id=/Admin/Pages%20Files/201710914947book.pdf.
[7] يحيى شوكت, العدالة الاجتماعية والعمران | خريطة مصر, 2013, 47–56, http://blog.shadowministryofhousing.org/p/blog-page_2887.html.
[8] مرصد العمران, “المرحلة العاشرة لأراضي الإسكان الاجتماعي – المزايا والعيوب”, مرصد العمران, 10 إبريل، 2019, http://marsadomran.info/facts_budgets/2019/04/1747/.
[9] يحيى شوكت, “ستة عقود من تقنين المباني غير الرسمية 1956-2019”, مرصد العمران, 10 أكتوبر، 2019, http://marsadomran.info/policy_analysis/2019/10/1795/.
[10] على المغازي, “العشوائية القسرية: تصادم الحق في السكن وقوانين البناء”, مرصد العمران, 25 إبريل، 2018, http://marsadomran.info/policy_analysis/2018/04/1505/.
[11] الأهرام, “بعد التعدي على آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية: أراضى الدولة تطلب الحماية – الأهرام اليومي”, الأهرام, 6 مارس، 2016, http://web.archive.org/web/20181213211254/http://www.ahram.org.eg/NewsQ/483467.aspx