عشر سنوات على كارثة الدويقة – الجزء الأول: الكارثة والتعامل معها

في الذكرى العاشرة لكارثة الانهيار الصخري بمنطقة الدويقة بالقاهرة، ينشر مرصد العمران سلسلة من المقالات تعيد تسليط الضوء على أحد أهم الأحداث العمرانية والاجتماعية في تاريخ مصر المعاصر

يسرد الجزء الأول حدث الكارثة والتعامل الأولي معها ما بين إغاثة المنكوبين، وإعادة تسكين الناجين، وإزالة المساكن التي ظلت في دائرة الخطر

الكارثة

قبل الساعة التاسعة صباح يوم السبت السادس من سبتمبر 2008 (الموافق السادس من رمضان 1429)، بدأت سلسلة من الانهيارات الصخرية، حجم القطعة يماثل بيتًا صغيرًا، انشطرت من حافة هضبة الدويقة بحي منشية ناصر بالقاهرة، وانهالت على عشرات المنازل المقامة أسفلها بمنطقة عزبة بخيت.[1]

دمر الانهيار الصخري الأول، وهو الأكبر، أكثر من 166 مسكنًا،[2] لقي أكثر من 119 شخصًا مصرعهم أسفلها، وأصيب نحو 55 شخصًا تم إنقاذهم، وذلك حسب البيانات الرسمية.[3] بينما يشير نواب المجلس المحلي الشعبي والأهالي إلى فقدان عدد أكبر من هذا. تلى الانهيار الأول عدد من الانهيارات الصخرية الأخرى في الأسابيع التالية للكارثة،[4] ما غيَّر وجه المنطقة إلى الأبد.

تصوير جوي قبل الكارثة (أعلى، سنة 2004) وبعد بسنة (أسفل، سنة 2009) يظهر آثار الدمار والمنطقة التي تم إخلائها من السكان وهدمها خلال الأشره اللاحقة. جوجل إرث.

توالت العديد من الأسباب والمبررات وراء الانهيار الصخري، من خبراء، وممن لا يفقهون. يبدو أن الانهيار حدث لاجتماع عدة عوامل معًا، وليس لعامل واحد. أولًا: حسب أحد الخبراء والذي كان مكلفًا بعمل تقرير عام 1994 بعد انهيارين ضخريين بالهضبة نفسها،[5] فإن التكوين الجيولوجي للهضبة جعلها هشة في مناطق معينة. كما أشار الخبير إلى أن حافة الجبل زاوية رأسية تؤدي إلى انفصال الكتل الصخرية (وهذا لكون حواف هضبة المقطم بأكملها كانت محاجر للحجر الجيري عبر القرون)، والمفروض أن تكون الجوانب الصخرية المجاورة للمجتمعات السكنية مائلة بزاوية ثبوت الصخور‏. وقد زاد من هشاشة الصخرة تسرب مياه الصرف الصحي من مواسير وترانشات مساكن الإيواء المسماه بالتلاتات والتي أقامتها الحكومة فوق الصخرة في منطقة الدويقة.

بالإضافة إلى هذه العوامل والتي تكرر ترددها، هناك عامل آخر أقل حظًّا في التغطية. فحسب شهادات الأهالي إلى النيابة،[6] وحسب عضوٍ بالمجلس المحلي،[7] تعاقد حى منشية ناصر مع مقاول عمل لمدة ثلاثة أشهر قبل الانهيار على تهذيب حواف الهضاب. هذا ما اعترف به مدير الإسكان بالحي بأن الأعمال كانت تقع فوق منازل سبق أن أنذروا السكان بإخلائها، ولكن السكان امتنعوا عن الاخلاء، بينما أنكر رئيس حي منشبة ناصر أن الأعمال كانت بالهضبة المنهارة، معللًا أنها كانت على بعد 100 متر من الهضبة.[8]

في النهاية، اجتمعت عوامل عدة من صنع الإنسان ليسفر عنها انشطار وانهيار صخور حواف هضبة المقطم في العديد من الحوادث المسجلة منذ عام 1993.

الإنقاذ والبحث عن ضحايا

تحركت الأجهزة المعنية للاستجابة إلى الكارثة في الساعات الأولى، ومن بينها الدفاع المدني، والشرطة، والقوات المسلحة، والإسعاف، بالإضافة إلى العشرات من الأهالي. ولكن تأخر وصول معدات تفتيت ونقل الصخور والأنقاض إلى موقع الكارثة لمدة يوم نظرًا إلى ضخامة حجمها، وعدم إمكانية مرورها بشوارع المنطقة. فقامت المحافظة بإخلاء وهدم خمسة منازل لإفساح الطريق لها، في اليوم الأول، بالإضافة إلى البدء في إزالة جسر لخط سكك حديد المحاجر المارِّ بشمال عزبة بخيت والفاصل بينها وبين شارع الطيران الرئيسي.[9] ولكن رفض الأهالي إزالة منازل أخرى لعدم ضمان الحكومة لهم بالتعويض عنها وإعادة تسكينهم، وحتى ليل يوم 6 سبتمبر، أي بعد مرور نحو 12 ساعة على الانهيار الصخري، لم تكن المعدات قد وصلت إلى موقع الكارثة، مما أخر عمليات إنقاذ الأحياء.[10]

خلال اليوم الأول تم إنقاذ نحو 39 شخصًا وانتشال 26 جثة،[11] وفي اليوم التالي للكارثة تم إنقاذ 14 آخرين، وانتشال 9 شهداء.[12] تضآلت فرص العثور على ناجين في اليوم الثالث، نظرًا إلى بطء سير عملية الإنقاذ واستخدام الأدوات البدائية للحفر ما بين الجراكن وعلب الفول التي اشترك فيها الأهالي بشكل رئيس.[13] كما تشاجر الأهالي مع أفراد الدفاع المدني حول أماكن الإغاثة واستخدام آلات تفتيت الصخور اليدوية.[14] بدأ ظهور تراجع الأجهزة الحكومية عن عملية الإنقاذ في اليوم الرابع مع قيام الدفاع المدني برش الأنقاض بمادة الكيروسين في محاولة لتطهير المنطقة من روائح جثث الضحايا، كما اتهمهم الأهالي بردم منزل لم ينتهِ بعدُ استخراج الجثث منه، ما أدى إلى اشتباكات بينهما، وفرض الأمن المركزي كردونًا حول المنطقة.[15]

في الأجواء المشحونة ما بين اشتباكات واعتصامات وحزن غير نهائي، استمرت عمليات البحث عن المفقودين لنحو شهر، مع محاولة الأجهزة الحكومية الانسحاب بعد أول عشرة أيام،[16] ولكن مع ضغط الأهالي استمر عدد محدود من أفراد الدفاع المدني حتى عيد الفطر.[17] انتهت رسميًّا عمليات البحث مع وصول عدد الضحايا إلى 119 قتيلًا، بينما أُصر الأهالي أن أعداد القتلى كانوا أكثر بكثير، حيث كانت أسر بأكملها لا زالت داخل بيوتها في الصباح، العديد منها نائم أو يستعد للخروج للعمل،[18] وهو ما تدعمه قوائم الشهداء ونائب المجلس المحلي الذي له علاقة طويلة بالمنطقة.[19] كما أن النيابة لم تحتسب الأشلاء التي تم العثور عليها على أنها من بين القتلى، مبررة أن تصاريح الدفن تصدر لأشخاص معلومة فقط.[20] ومع ردم المنطقة وتحلل الجثث، لم يُعرف العدد الفعلي لقتلى كارثة الدويقة.

موقع الكارثة بعزبة بخيت بمنشية ناصر بعد أربعة سنوات من الكارثة و تسوية المحافظة له، وتظهر هضبة الدويقة وآثار إنشطار الصخور منها – مرصد العمران

إزالة وإيواء وإعادة التسكين

في الأيام الأولى تم الإعلان عن تسكين 266 أسرة في مخيمي إيواء، الأول بمركز الشباب بحي منشية ناصر نفسه، والثاني بحديقة الفسطاط بحي مصر القديمة، على بعد أكثر من ثمانية كيلومترات.[21] من بين هذه الأسر 166 فقدت منازلهم أسفل الأنقاض، والبقية قامت المحافظة بإخلائهم لإزالة منازلهم التي تصدعت من الانهيار الصخري أو تم إدراجها ضمن أول موجة إخلاء وإزالة احترازية.  بعد ثمانية أيام من الكارثة، أعلن محافظ القاهرة أنه تم تسكين 289 أسرة في شقق مساكن الدويقة الجديدة/ سوزان مبارك،[22] والتي كانت من ضمن 10 آلاف شقة تم بناؤها ضمن مشروع لتطوير المنطقة بمنحة من صندوق أبو ظبي للتنمية قدرها 1.2مليار جنيه.[23] خلال شهر من وقوع الكارثة، أزالت المحافظة نحو 1600 مسكن في عزبة بخيت والدويقة تقرر أنهم في دائرة الخطر، وأعلن المحافظ عبد العظيم وزير عن إعادة تسكين 1713 أسرة بالمساكن الجديدة.[24]

رغم هذه التصريحات وتوافر 2000 وحدة سكنية جاهزة، وضع المسئولون شروطًا تعجيزية على المضارين لتعويضهم بمسكن، أو قاموا بالتلاعب بشروط إعادة التسكين رغم توافر المستندات اللازمة لدى الأسر التي تم إخلاؤها. فمع أن المساكن الجديدة بُنيت بمنحة لا ترد، فقد أعلن المسئولون أن الشقق سيتم تأجيرها للمضارين بما بين 55 إلى 60 جنيهًا شهريًّا.[25] وفي غياب سندات ملكية أو عقود إيجار تثبت إقامة السكان بالمنطقة، اعتمدت عملية إعادة التسكين على شهادات وفاة لذوي الناجين من الكارثة.[26] ولكن مع استمرار عملية البحث لنحو شهر، لم تتحصل العديد من الأسر المنكوبة على تعويض عن مسكنهم، أو حتى مأوى ملائم مؤقت حتى إتمام عملية البحث، وانتشال جثث ذويهم. وامتنع المسئولون عن تسليم مساكن بديلة للعديد ممن تم إخلاؤهم وهُدمت منازلهم ضمن موجات الإزالة رغم حصولهم على خطابات رسمية بالإخلاء، مشترطين أن تكون بطاقاتهم مدون بها عناوينهم بالمنطقة، أو أن يكونوا متزوجين وليسوا عزابًا.[27] في حين تفاجأت عشرات من الأسر عند تسلمهم المساكن البديلة، أن المحافظة قررت تسكين ثلاثة أسر بكل وحدة، ما أدى إلى مشاجرات بين الأهالي بعضهم مع بعض، وبينهم وبين المسئولين، حتى لجأت المحافظة إلى قوات الأمن المركزي لاحتواء العنف.[28]

سرعان ما انهارت منظومة الإيواء وإعادة التسكين بسبب تقاعس وتلاعب المسئولين. فاعتصم عشرات من الأهالي أمام محافظة القاهرة، وأمام إدارة التسكين بمساكن الدويقة الجديدة، والتي فضها الأمن المركزي بالعنف، واعتقل عددًا من الأهالي.[29] في الوقت نفسه، ومن المرجح بعد انتشار الأنباء عن قصور عملية تسليم المساكن البديلة، اشتدت مقاومة الأهالي المزمع إخلاء منازلها وقت ذك وهدمها لوقوعها في دائرة خطر الانهيار الصخري.[30]

المراجع والملاحظات