عشر سنوات على كارثة الدويقة –  الجزء الثالث: المحاكمات لا تتوصل لجانٍ

  • نُشرت في 31 أكتوبر 2018

في الذكرى العاشرة لكارثة الانهيار الصخري في منطقة الدويقة بالقاهرة، ينشر مرصد العمران سلسلة من المقالات تعيد تسليط الضوء على أحد أهم الأحداث العمرانية والاجتماعية في تاريخ مصر المعاصر. يسرد الجزء الثالث مسار التحقيقات القضائية والسياسية حول الكارثة وما توصلت إليه.

تحقيقات أولية

عقب الحادث أمر النائب العام بفتح تحقيق بمعاونة لجنة من الجيولوجيين من وزارة الصناعة،[1] التي باشرت العمل على فحص الأرض الواقعة أعلى المنطقة المنهارة لبيان مدى تأثر التربة بالأنشطة والمباني المقامة عليها. عمل فريق التحقيق أولًا على إخلاء المنازل المعرضة للخطر، والتعاون مع الأجهزة المعنية على تسهيل إجراءات انتشال الجثث والتعرف عليها وإصدار تصاريح الدفن لأهالي المصابين.[2] على جانب آخر، خاطبت النيابة محافظة القاهرة من أجل تحديد ملكية الدولة للأرض من عدمه، واستعجال تقرير المساحة الجيولوجية لبيان أسباب الحادث.

في الأيام الأولى اتهم أحد أعضاء المجلس المحلي للمحافظة حي منشية ناصر بالتعاقد مع مقاول للقيام بأعمال تهذيب لحافة الجبل لتجنب انهياره، الأمر الذي أدى إلى تصدع الجبل وحدوث الكارثة.[3] وعليه قامت النيابة بالتحقيق مع المقاول، ثم تم إخلاء سبيله على ذمة التحقيق.[4]  كما أدلى عدد من الشخصيات المعنية مثل أعضاء المجلس المحلي وعضو مجلس الشعب عن منشية ناصر بدلوهم بخصوص الحادث. أقر أحد مسئولي الإسكان بالمحافظة أن السبب الأساسي للكارثة هو جهل السكان بمساكن الإيواء الحكومية المقامة أعلى هضبة الدويقة، بكيفية التعامل مع الصرف الصحي،[5] وأن ذلك كان العامل الذي أدى إلى تدهور التربة المقامة عليها المساكن والتي يغلب عليها الحجر الجيري، وانهيارها على مساكن عزبة بخيت أسفلها.

ومع عدم استدعاء محافظ القاهرة آنذاك، عبد العظيم وزير، صرح المحافظ في مقابلة صحفية بأن الحادث لم يكن الأول من نوعه، حيث سبقه حادث آخر عام 1993 أدى إلى سقوط 69 ضحية نتيجة انهيار صخري وقع في منطقة الزبالين بمنشية ناصر، وعزا المحافظ الأمر إلى حرق القمامة قريبًا من حافة الجبل.[6] بناءً على ذلك تم رفع تقرير جيولوجي بضرورة إبعاد الصخور عن الحافة بمسافة تتراوح بين 10 أمتار و30 مترًا وبدرجة ميل معينة، وتم التعاقد مع مقاول على التنفيذ والذى تم الانتهاء منه عام 2007. كما صدر تقرير آخر في فبراير 2008، أي قبل حدوث الكارثة بسبعة أشهر، بضرورة إزالة المساكن الواقعة أسفل الحافة الصخرية للجبل، وحسب المحافظ تم التواصل مع سكان المنطقة عن طريق نائب المحافظ للمنطقة الغربية التابع لها الحي، ولكن حسب المحافظ، رفض الأهالي الانتقال لارتباطهم بالمنطقة اقتصاديًّا واجتماعيًّا. هذا ما دفعه إلى أن يستصدر قرارًا من النيابة بإخلاء السكان من المناطق ذات الخطورة الداهمة، ومرة أخرى، يروي المحافظ أن السكان خالفوا القرار وعادوا إلى مساكنهم.

على الصعيد نفسه، صرح رئيس حي منشية ناصر آنذاك بأنه قد حدث انهيار مشابه ولكن على نطاق أضيق، لكن تم تلافي حدوث الكارثة بإخلاء البلوك رقم 47 من مساكن الإيواء الحكومية من السكان،[7] ولكن بدون تعميم عملية الإخلاء الاحترازي.

ولكن ما لم يذكره المحافظ أن أسباب رفض الأهالي الإخلاء وعودتم إلى المنازل هو عدم توفير تعويضات مادية مقابل ترك منازلهم، أو توفير مساكن بديلة ملائمة، لأنها كانت بمساكن النهضة التي تبعد 35 كيلو مترًا عن منطقتهم.[8] هذا رغم تواجد نحو 2000 وحدة سكنية حكومية خالية    على بعد أمتار منهم. فهذه الوحدات كانت من ضمن 8000 وحدة تابعة لمشروع تطوير الدويقة/مساكن سوزان مبارك، التي تم إنشاؤها بمنحة قدرها 150 مليون دولار من صندوق أبو ظبي للتنمية، ينفذها الجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الإسكان. وعند سؤال المحافظ عنهم أقر بأن وزارة الإسكان كانت على وشك تسليم 2000 وحدة منها للمحافظة، ولكن بحسبه: “القدر سبقنا.”[9]

لاقى اتهام “القدر” صداه مع وزير الإسكان آنذاك، أحمد المغربي، خلال اجتماع بمجلس الشعب حول الكارثة، فقال إنه كان من المخطط نقل السكان إلى المساكن الجديدة خلال أسبوعين من حدوث الكارثة، إلا أن “القدر سبقنا”، ليختتم رده على اتهامات نائبة بالحزب الوطني له بالتقصير قائلًا: “حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن لا يؤمن بالقدر.”[10]

بدلًا من التركيز على الحقائق المقدمة والتحقيق في كيفية عمل مقاول على تهذيب صخور ضخمة وبأسفلها عشرات من المنازل المكتظة بالسكان، وجه أعضاء مجلس الشعب أسئلة وتعليقات فرعية لموضوع مسئولية الحكومة حول الكارثة. فتم اتهام أعمال إنشائية بمشروع شركة إعمار بهضبة المقطم بالتسبب في انهيار الصخرة، واتهام وزير الإسكان بتخصيص شقق من مشروع سوزان مبارك للشركة كمكاتب. بينما اقترح النائب آنذاك، ومرشح الرئاسة المستقبلي حمدين صباحي، التبرع بنصف مرتبات نواب المجلس ونصف موازنة أجهزة الدولة لحل مشكلة العشوائيات. دارت هذه المناقشات كلها في غياب أحد أهم الرموز السياسية لمنشية ناصر، وهو نائب مجلس الشعب عنها محمد إبراهيم سليمان، وزير الإسكان الأسبق والذي بدأ مشروع التطوير في عهده.[11]

في نهاية المطاف، خلّص المجلس نفسه من الكارثة، معلنًا أنه سبق وحذر الحكومة منها عدة مرات،[12] ولم يقدم أي مسئول عن أكبر كارثة عمرانية معاصرة إلى المحاكمة السياسية.

المسار القضائي

استطاع كبار المسئولون عن مشروع تطوير الدويقة وإسكان سوزان مبارك الخروج من دائرة الاتهامات الجنائية مبكرًا، من بينهم محافظ القاهرة ووزير الإسكان الحالي آنذاك، بالإضافة إلى وزير الإسكان السابق له.

فبعد مرور نحو 14 شهرًا على الكارثة، تم توجيه تهم قتل 119 شخصًا بالخطأ وإصابة 55 بالخطأ والتقاعس عن نقل السكان من المناطق ذات الخطورة رغم العلم بذلك مع توافر المساكن البديلة إلى كلٍ من اللواء محمود ياسين، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية، و7 مسؤولين آخرين، هم اثنان من رؤساء حي منشية ناصر السابقين، ومديرا ووكيل منطقة الإسكان، ومسئول الصخور ومدير إدارة الأملاك والمباني بالحي. [13]

استغرقت الجولة الأولى من المحاكمات أربعة أشهر، حتى قضت محكمة جنح منشية ناصر في يوم 26 مايو 2010 بالسجن 5 سنوات مع الشغل والنفاذ لنائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية وكفالة 5000 جنيه لإيقاف تنفيذ العقوبة بينما قضت ضد المتهمين  الآخرين بالحبس لمدة 3 سنوات مع الشغل والنفاذ وكفالة 3000 جنيه عن تهمتي القتل والإصابة الخطأ، بالإضافة إلى إلزامهم بتسديد للمدعين بالحق المدني مبلغ 5001 جنيه على سبيل التعويض المؤقت.[14]

تم الاستئناف على الحكم من قبل المدّعَى عليهم، وفي الجولة الثانية تم الحكم في أكتوبر من نفس العام ببراءة وإلغاء الحكم على كل من نائب المحافظ ومدير إدارة المباني بحي منشية ناصر، وتخفيض الحكم على باقي المدَّعى عليهم إلى سنة.[15] نقض الحكم المتهمون الباقون، وحمَّل دفاعهم سوزان مبارك زوجة الرئيس السابق محمد حسني مبارك، المسؤولية الكاملة في وقوع الكارثة باتهامها شخصيًّا بإنشاء وحدات سكنية بمنطقة الدويقة، دون إنشاء صرف صحي لها، وأن حكومة النظام السابق قدمت 5 موظفين إلى المحاكمة في تلك القضية ليكونوا كبش فداء بدلًا من المحافظ ونوابه السابقين. انتهى الأمر أمام محكمة النقض في 16 سبتمبر 2014، بعد أيام من الذكرى السادسة للكارثة، بتعديل الحكم إلى سنة مع إيقاف التنفيذ،[16] لينجو جميع المسئولين من الحبس في قضية كارثة الدويقة.

خاتمة: المسئولين محصنين من المسئولية

بينما غيرت كارثة انهيار صخرة الدويقة من التعامل مع المناطق غير الرسمية في مصر، وأحدثت مصطلح “المناطق غير الآمنة” (راجع الجزء الثاني)، فإنها أظهرت غياب أية آلية لتحديد المسئوليات بين أجهزة الدولة المختلفة المتعاملة مع قضايا الإسكان والإدارة العمرانية وتجنب أو إدارة الكوارث، فالأحكام النهائية جاءت غير رادعة.

في العشر سنوات منذ الكارثة، لم تقم الحكومة بأية خطوات لإعادة هيكلة المسئولية الإدارية، أو إعطاء مجال أوسع للرقابة الشعبية على الأجهزة المحلية التنفيذية. فحدث العكس تمامًا حيث تظل كراسي المجالس الشعبية المحلية خالية بعد حل هذه المجالس في أعقاب ثورة يناير 2011، ولم تُجرَ انتخابات عليها منذ ذلك الحين. وبينما تمثل المجالس الشعبية المنتخبة دورًا رقايبيًّا شرفيًّا، فإنها كانت أداة توازن مع المجالس التنفيذية المعينة من قبل الحكومة، ورؤساء الأحياء والمديريات. وهو  ما أدى إلى استمرار إفلات مسئولي الحكومة من أية تهم من الإهمال أو إحداث أي تغيير جذري لتفادي المخاطر في كوارث عدة لاحقة على كارثة الدويقة، سواء ظاهرة انهيار العقارات المستمرة، أو السيول الموسمية المدمرة والتي كان أشهرها سيول مدينتي الإسكندرية والقاهرة الجديدة عامي 2015 و2017 على التوالي.

شكر وعرفان

كتابة: يحيى شوكت وعلى المغازي

مراجعة لغوية: أحمد الشبيني

الصورة الرئيسية: موقع الكارثة بعزبة بخيت بمنشية ناصر بعد أربعة سنوات من الكارثة و تسوية المحافظة له، وتظهر هضبة الدويقة وآثار إنشطار الصخور منها – مرصد العمران

المراجع والملاحظات

[1] الأهرام. “النائب العام‏:‏ انتداب خبراء جيولوجيين لتحديد أسباب الانهيار الصخري.” (7 سبتمبر 2008)     http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/7/FRON3.HTM

[2] الأهرم. “النيابة تقرر إخلاء جميع المنازل فوق المنطقة المنهارة بالدويقة، استعجال تقارير لجان الحي ومحافظة القاهرة وخبراء هيئة الجيولوجيا حول الحادث” (8 سبتمبر 2008)  http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/8/FRON4.HTM و: الأهرام. “النائب العام يصدر توجيهات بتواجد أعضاء النيابة العامة على مدار ‏24‏ ساعة لسرعة إنهاء الاجراءات وتجنيب الأهالي المعاناة” (9سبتمبر 2008)   http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/9/FRON8.HTM

[3]  البوم السابع. “حي منشية ناصر سبب كارثة الدويقة ” (7 سبتمبر 2008)  https://www.youm7.com/story/2008/9/7/%D8%AD%D9%89-%D9%85%D9%86%D8%B4%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1-%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%AB%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%8A%D9%82%D8%A9/38920

[4]  الأهرام. “مبارك يصدر توجيهات بسرعة تسكين متضرري الدويقة وإخلاء المنطقة المهددة بالخطر.” (8 سبتمبر 2008)  http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/8/FRON1.HTM

[5]  المصري اليوم. “مسؤول في “الإسكان”: غياب ثقافة استخدام الحمامات سبب كارثة الدويقة.” (3 أكتوبر 2008) https://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=180852

[6]  الأهرام. “محافظ القاهرة في مواجهة صريحة حول كارثة الدويقة‏:‏ القـدر سبقنا بخطوة‏!‏” (13 سبتمبر 2008)     http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/13/FILE1.HTM

[7]  الأهرام. “مفاجأة يفجرها رئيس حي منشأة ناصر” (8 سبتمبر 2008) http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/8/FRON15.HTM

[8] منظمة العفو الدولية: “دُفنوا أحياءً: سكان المناطق العشوائية في القاهرة بين فكي الفقر والإهمال” (منظمة العفو الدولية، 2009) ص18

https://www.amnesty.org/download/Documents/48000/mde120092009ara.pd

[9] الأهرام. “محافظ القاهرة في مواجهة صريحة حول كارثة الدويقة‏:‏ القـدر سبقنا بخطوة‏!‏” (13 سبتمبر 2008)     http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/13/FILE1.HTM

[10]  اليوم السابع “المغربى يتهم “القدر” بالمسئولية عن أحداث الدويقة” (11 سبتمبر 2009)  https://www.masress.com/youm7/39672

[11] المصري اليوم. “المغربي يمنع مسؤولي الإسكان من التعليق علي اتهامات “وزير” بشأن “الدويقة” ومنحة أبوظبي” (18 سبتمبر 2009)  https://to.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=179037

[12] الأهرام. “في تقرير لمجلس الشعب‏:‏ حذرنا من خطورة بهضبة المقطم وضرورة إخلاء المنطقة منذ عام ‏1994” (12 سبتمبر 2008)  http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/9/12/FRON6.HTM

[13]  المصري اليوم. “دفاع المتهمين في “حادث الدويقة” يطالب بإدخال المحافظ ومأمور قسم شرطة منشأة ناصر في القضية.” (28 يناير 2010)  https://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=241960

[14] الأهرام. “5‏ سنوات لنائب محافظ القاهرة في حادث الدويقة” (27 مايو 2010)  http://www.ahram.org.eg/archive/Incidents/News/22131.aspx

[15]  الأهرام “براءة اللواء محمود ياسين نائب محافظ القاهرة.” (22 سبتمبر 2010)  http://www.ahram.org.eg/archive/Incidents/News/40100.aspx

 [16] المصري اليوم. “سنة مع الإيقاف لـ5 مسؤولين بـ”القاهرة” في انهيار “صخرة الدويقة” (16 سبتمبر 2014) https://www.almasryalyoum.com/news/details/525058

Stay Updated with our Newsletter

اشترك بالقائمة البريدية لتحصل على آخر التحديثات